وتركها تتساقط تحت الكرسيّ، همهم العجوز الجالس إلى جواره: هذا السائق سيقتلنا، مسح الزّجاج بكمّه وكأنّه لم يسمع، وحاول أن يضيّع صداعه بين الأرصفة الراكضة تحت المطر، قرّب العجوز رأسه بإصرارٍ على اختلاق حديثٍ، وخاطبه: بهكذا سرعة قد نموت، خطر له أن ينفجر بوجهه فيقول: «هذا يكفي... توقّف كرمى لله» أو « يا ليتنا نموت و نرتاح» أو أن يسأله بفظاظةٍ: « وكم بقي من عمرك لتخاف عليه؟»،
غير أنّه بالكاد نظر إليه حتى عدل عن رأيه، فقد تفاجأ بعينين باسمتين مغروزتين في وجهٍ بشوشٍ، أطلق تنهيدةً أطفأت احتراق أنفاسه، وأشاح بوجهه بعيداً، ولكن العجوز سرعان ما استغلّ تجاوبه الطّارئ، فتفتّحت على خدّه المترهّل غمّازةٌ غائرةٌ، وجعل يسأل: مشاجرة؟، تمتم الشاب بتكلّفٍ من دون أن يلتفت: قلّة حظّ، تابع العجوز تطفّله وهو يحدّق بالورق المتناثر: مع فتاة؟، أجابه مضطرّاً كمن يبرّر أمراً: لا يا سيّدي بل مع الحياة... لقد رفضوا توظيفي لا أكثر، ثمّ تشاغل ثانيةً بمسح الزجاج، قهقه جاره عن عمدٍ علّه يستفزّه فيتابع الحديث، وعلّق ببرودٍ: تبدو وظيفةً محترمةً!، بلع الشاب ريقه، أجابه محتدّاً: الوظائف المحترمة لغيري يا عم أما أمثالي فيتطلّعون إلى الوظائف الأقلّ احتراماً، سمعه يتشدّق كالمنظّرين بالنّصائح: بسيطة... الوظيفة تُعوَّض، أحسّ لحظتئذٍ أنّه تورّط بالسماح لثرثارٍ مسنٍّ أن يتدخل، فشبك ذراعيه أمام صدره وعاود الشرود في النافذة، تناهت إليه كلمات العجوز المشجّعة والتي خيّل إليه أنها لن تنتهي، ومع ذلك لم يكترث وإنّما شرع يتأفّف علّه يتعطّف عليه ويسكت، إلى أن سمعه يقول أخيراً: تصوّر أنّني أنا الآن مثلك من دون وظيفة، ألهبت الجملة رغبته بالضحك على الرغم من كل أحواله المتأزّمة، دقّق في جاره الطويل اللسان، وفي قبّعة الفرو التي تبتلع نصف رأسه، قدّر أنه يجب أن يكون قد دخل سنَّ التقاعد منذ عشرين عاماً على الأقل، خاطبه بنبرةٍ أقلّ حدّةٍ: أنا مهندسٌ معماريٌّ يا عمّي... أجيد أربع لغات... أتقـ...، قاطعه العجوز على الفور: سافر، ردّ بفتورٍ: سأسافر
ـ إذن لا مشكلة
ـ وهل السفر بهذه البساطة!
ـ تفاءل
ـ أنظر لذلك المتحف... ولهذا البناء الضخم الذي تجاوزناه للتّو... إنّهما من تصميم مهندسٍ عبقريٍّ اسمه حيّان حيّان... لو تعلم الجوائز العالمية التي نالها... إنّه مذهلٌ ومع ذلك...
- أهكذا أنت دوماً؟ لا ترى في الحياة سوى الفاشلين!
- ... كلّ ما حولنا يقول لك : مت بطيئاً
- بشرفي أنّك سوداويٌّ حتى العظم.
انتبه الشاب لوهلةٍ إلى أنّه انزلق في الحديث رغماً عنه واسترسل أكثر من اللازم، فحاول أن يضع حدّاً له، قال مغيّراً الموضوع: تبّاً لمن أعطاه شهادة السواقة
ـ عندما كنت في مثل عمرك كنت أسعى بشراسةٍ خلف أحلامي بانتظار أن تتحقّق، فشلت كثيراً... قبلت بوظيفةٍ صغيرةٍ منتظراً أن يتحسّن وضعي فلم يتحسّن، سافرت، نجحت، انتظرت أن تكبر مكاسبي الصغيرة، وانتظرت أن أجمع بعض المال لأنفّّّّذ مشاريعي الخاصة، وفي يومٍ خسرت كلّ ما أملك فانتظرت ببساطة فرصةً أخرى...
ـ عذراً على المقاطعة، ولكن هل تعلم كم كلمة « انتظرت» قلت حتى الآن؟
ـ إن شئت أعيد لك ما قلت لنعرف
ـ أحسد طبعك المرح... ولكن قلّي بالله ماذا تنتظر اللحظة؟
ـ أنتظر أياماً أفضل
ـ تنتظرها حتّى الآن!! خلّصنا يا أخي... ألا تملّون الانتظار؟
ـ ومن قال لك أن تنتظر! افعل أنت شيئاً ترضى عنه
ـ عدنا حيث بدأنا... ليتني أستطيع
ـ لا بأس إذن... اذهب واشنق نفسك
ـ لست أدري لماذا أواصل نقاشي معك، غير أنّي أودّ أن أقول لك شيئاً أخيراً... الأيام الأفضل التي تنتظرها قد تأتي ولكنّها أيضاً قد لا تأتي أبداً.
ـ هذا شأنها.
نهض العجوز طالباً من السائق أن يتوقف، ترك كرسيّه بعد أن أودع جاره ابتسامةً دافئةً، هتف الشاب فجأةً: هويّتك يا عم سقطت منك، التقطها له، ناوله إياها و قشعريرةٌ عجيبةٌ تهزٌ جسده، رجع ليجلس مكانه من جديد، ويستوعب بهدوءٍ الاسم الذي قرأ... «حيّان حيّان»، شيّع بعينيه جاره المسن، حيث وقع المطر يلاحق خطاه البطيئة وظهره المحنيّ يبتعد، في حين تحرّكت الحافلة من جديد بعد أن غاب العجوز واشتدَّ المطر...