ومعادلة رياضيّة مخبريّة في عناصرها ونتائجها والتصورات السابقة لها، بل هومزيج متداخل من التقنية والخيال، والعلم والشعر، والكيمياء والإحساس، والقصديّة والعفويّة. والمسيرة إلى الفن العظيم ليست صعبة، وفي نفس الوقت ليست سهلة، وإنما هي شيء من هذا وذاك. فالفن العظيم، برق لخاطر يتنزه بين نعومة الورد وصلابة حد السيف. بين توقدات الوعي الجمعي وحرائق الوعي الخاص. بين الحضور الكلي والغياب النسبي لهذين النوعين. قوانين مثاليّة
وضع اليونان قواعدهم المثاليّة، ونسبهم الذهبيّة للفن «النحت منه بشكل خاص» عبر وعي مخبري محسوب بدقة، تابعه فيما بعد، فنانوعصر النهضة وعدد من الفنانين المعاصرين. في المقلب الآخر، حقق فنانون بدائيون في الدول النامية أوالسائرة في طريق النمو»أفريقيا، أمريكا اللاتينيّة، آسيا، والهنود الحمر، سكان الأسكيمو... الخ» فناً مختلفاً من حيث النسب، مع ذلك، احتضنت نسخة مثاليّة وذهبيّة لا تقل قيمة وأهميّة، عن تلك التي أوجدها اليونانيون والرومان وتلاميذهما. فقد جاءتنا، عبر الفنون البدائيّة ومن خلالها، جملة من الكشوفات والقيم الفنيّة العالية والرفيعة، ليس عبر الوعي الرياضي المخبري، وإنما عبر الحس النقي، والخيال الخصب، والصدق النادر، في تعامل الفنان البدائي مع موضوعات فنه ووسائل تعبيره البسيطة.
العلم والإحساس
يرى بعض علماء الجمال والفلاسفة، أن نموالروح العلميّة سيوقف نموالخيال الشعري. من هؤلاء «هارتمان» الذي يؤكد أن عهد العلم الذي سيخلف عهد الأساطير، سيكون عهد «البرودة». وحين كان «لوقطريس» يحتفل بتفوق العِلم على الاعتقادات الخرافيّة، كان في الوقت نفسه يحتفل بتفوق العِلم على الشعر. ويحلوللألمان أن يكرروا مع «شلنغ» و»شتراوس» و»فاغنر» أن الشعر الحق لا يكون دون خرافات. ويرى فلاسفة الفن المتصوفون أن يد العِلم ما إن تمتد إلى شيء حتى يذبل هذا الشيء. وباعتقاد «شيلر» يجب على المرء أن تكون له الجرأة لخداع نفسه والتغلغل في الحلم، وهذا هوشعار الفن.
أما «جان ماري جويو» فيرى أن التعارض بين الخيال الشعري والعِلم سطحي غير عميق، وأن الشعر سيظل قائماًَ إلى جانب العلم. وباعتقاد «أرنولد» أن الشعر كالعلم تأويل للعالم، ولكن تأويلات العلم لن تمدنا أبدا ً بذلك المعنى العميق الكامن في قلب الأشياء، والذي تمدنا به تأويلات الشعر، ذلك أن تأويلات العِلم تتجه إلى ملكة واحدة، لا إلى الإنسان بأسره، هذا هوالسبب أن الشعر لا يمكن أن يندثر!!.
ويشير «جويو» إلى ا ن جهود العَالِم ترمي إلى أن يخلص الأشياء التي يلاحظها من شخصيته الخاصة، ولكن القلب الإنساني جزء هام من الوجود، فلا بد إذن أن يكون بينه وبين الأشياء انسجام ضروري، وحين يحس الشاعر والفنان هذا الانسجام فإنه يكون قلب الحقيقة كالعالم سواء بسواء.
إن عاطفة من العواطف لا تقل قيمة بذاتها عن إحساس من الإحساسات، أوإدراك من الإدراكات. ليس الشيء الذي يُرى ذا قيمة موضوعيّة واحدة، بل العين ترى كذلك. إننا لا نستطيع أن نجرد قلبنا من العالم.
نحو المجهول
لوتعمق المرء في تحليل حاجته إلى السر والمجهول التي يحسها الخيال الإنساني لرأى أنها صورة مُقنّعة من صور الرغبة في المعرفة. فالمجهول يتيح لنا أن نحقق اكتشافاً في كل لحظة، وهويجعل حب الإطلاع متأججاً فينا باستمرار.
يرى «جويو» أنه يمكن رد الغموض الذي يضفي طابع السر على بعض الآثار الفنيّة إلى سببين مختلفين كل الاختلاف. أولهما إبهام الفكر. والثاني عمق الفكر. في الحالة الأولى، الغموض عيب وعلاقة ضعف، ولا شأن له بعظمة الأثر الفني قط. وفي الحالة الثانيّة، ليس العمق، على الرغم من الغموض الذي يبدولأول وهلة، إلا إشارة إلى أنوار بعيدة سحيقة سيكشف عنها العِلم ذات يوم. إن الشعر نفسه ضرب من العِلم العفوي، وليس الفن العظيم أحلاماً فارغة عقيمة إلى الأبد. إن الأفكار العظيمة التي تدور في خلد الشعراء والفنانين، نوافذ تطل على الحاضر أوالمستقبل. وما كان لها أن تحدث فينا أي تأثير لوأنها مجرد أحلام خياليّة غريبة عن الواقع كل الغرابة.
والحقيقة، لا تقتصر حاجة الفن على أن يدع العلم للخيال الشعري ميدانه الخاص المشروع. أي ميدان المثل الأعلى والسر والأحلام، فإن الفنان إلى جانب ذلك، لا يستطيع أن يحقق نظراته، وأن يبرزها إلى الخارج إلا بالعبقرية التي ليست إلا «غريزة» خلاقة.
العاطفة
يقول «جويو» أنه كي ينتج الخيال، وكي تُبدع العبقريّة، لا بد أن يستحثهما الخيال والعاطفة، وأن يخصبهما الحب. يجب أن يعيش المرء فكرته حتى يشعر بالحاجة إلى إخراجها، ومن الخطأ أن نتصور العواطف الإنسانيّة، حتى البذيئة منها، ثابتة لا تتغير على مدى العصور. فكل العواطف العفوية اللاواعية التي كانت تضر الإنسان البدائي، كانت مجرد انعكاسات عصبيّة، تصبح شعوريّة أكثر فأكثر على مر العصور.
قوة الأحلام
يرى «ألكسندر اليوت» أن الخيال قوة يختص فيها الإنسان دون غيره، وقد أوصى الفنان الإيطالي المعروف «ليوناردودافنشي» الفنانين الناشئين بطريقة وجدها «جزيلة الفائدة في استثارة الذهن لشتى ضروب الابتكار» فقال: إذا نظرت إلى حائط ملوث، أوحائط مبني من حجارة خليطة، قد تجد فيه ما يشبه المناظر الطبيعيّة، من جبال وأنهار وصخور وأشجار ووديان عريضة وتلال وتشكيلات عديدة، أولعلك ترى معارك ورجالاً يقاتلون، أووجوهاً وأزياءً غريبة، في تنويع لا ينتهي.
أن الغوص إلى دواخل الرائعة الفنيّة، تدريب ممتاز لعين الخيال، ولا شيء يقوي رؤية المرء الخياليّة، ويوسّعها، ويكثفها، إلا الفن نفسه، والخيال يأتي أحياناً كزخة مطر فجائية فلا يستطيع المرء السيطرة عليه أوكبح السحابة المدرارة، فما أوهى وما أقوى استبعاده الخلق لدى الإنسان. وفي النوم، تستقيظ عين الخيال أيضاً.. فقد كانت الأحلام أولى دلائل الإنسان الرهيبة على أنه من روح وجسد معاً. والإنسان في الأحلام يتخلص من جسده. حتى البليد يُبدي في الأحلام من قوة الخيال وحريته ما ينافس بيكاسو.
الخيال _ الكارثة
يعتقد «ألكسندر اليوت» أن الفنان «بروغيل» كان مخترعاً هائلاً، وقد حذّر ابنه أيضاً من مخاطر الحياة الخياليّة. فالخيال عندما يبالغ في التحليق نحونيران الروح الرهيبة، أوفي الانخفاض نحومياه الحس العاصفة، فهومهدد بالكارثة.
على الرغم من هذا، فإن «أكارس» لـ «بروغيل» أقرب إلى الدعوة منها إلى التحذير. كالتراب والهواء والماء تأتي بالحياة، وبعد ذلك بالموت، لأنها جزء من الدنيا الدائبة في دورانها، بيد أن هذه الحياة من هذه الدنيا ذاتها هي النار المريعة والسماويّة الدافقة من الخارج.
في داخل صورة «بروغيل» يحدق الأشخاص في التراب والهواء والنار، ولكن المرء خارجها يتطلع مباشرة إلى النار، ورؤية المشاهد تحلق إلى الشمس الغاربة. وفي النهاية يضمحل الظل الأخضر الذي تلقيه نفس المرء المتخيلة... يضمحل ويتلاشى إذ يتهاوى ويختفي. والآن لا أرض هناك أينما نظر المرء، ولا ذكريات. والشمس آخذة بالغروب، غير أن الخيال باقٍ في طيرانه القوي إلى الشمس، المرء يحلق... يحلق ولا شيء غير الخلق، وهذا ليس فيه إعادة لتشكيل مسبق، إنما هوالمجهول الجديد، هوالانبثاق من الحياة.
وكما يحلّق الخيال في الفن، ويطرزه بالغريب الجميل، كذلك يفعل في الواقع: يصعده ويصعد هومعه، ليبدوجميلاً ومرغوباً، من خلال تجدده الدائم.