نحن أنفسنا صنعة محاكاة، لا نكاد نقيم في المتن انطلاقاً للفكرة المركزية التي نمنحها لأنفسنا، حتى سرعان ما نجد أنفسنا في الهامش، عندما نضفي على تكويننا طابعاً من التخفّي، أي نكون في حكم المتشابه لا المحكم، ونحن نتحرَّى أصولاً لنا في جهة كونية ما، لتكون لغاتنا بالذات حمَّالة أوجه ِخلافاتنا وافتراضاتنا، محاكاتية فيما هومقدَّر عنها أيضاً!
سيرة مفترضة
نعم، مازلنا ندين إلى الذين فلسفوا المحاكاة تاريخياً، وقاربوها كونها تشدد على أكثر ما يؤلمنا فيما هوملحمي.
هذا يحثنا على إتباع خطى اليونان، وهم في متن المأساة، كما هوشأن تراجيدييهم في المسرح. إن أرسطووليس أفلاطون مازال فيلسوف المحاكاة الأول لنا، رغم عمق المسافة الزمنية بيننا» أكثر من 23 قرناً» وعامل الثقافة كذلك، وإن كان الأول محتفظاً بباعه المعرفي الأطول في هذا المنحى.
أرسطوربط الملحمة بما هوتراجيدي، والتراجيدي يكاد يشكل الحامل الجوهري لكينونتنا ومن خلال الشعر بالذات، حيث «إن الملحمة سايرت المأساة بوصفها محاكاة بواسطة الوزن للأفاضل من الناس»، كما يقول، لتكون المحاكاة الأثر الحميد الذي يمكن التركيز عليه ومعرفة ما هوإنساني من الداخل في التاريخ والمدينة، ولعله في ربط الموسيقى بالأخلاق ما كان يغفل صلة الموسيقى بالشعر إذ يحضر الإيقاع والغناء، وكيف أن الشعر كان يغنَّى وقتذاك، وكيف أكَّد صلةَ الأخلاق بالمحاكاة، وكيف أنها تقوم على التمثيل بأرقى صوره.
أرسطوينطلق مما هوحسي، من التجربة، ويلحق الآلهةَ بمجتمع المدينة، بالناس في الطبيعة التداولية لثقافتهم اليومية، وأنهم فيما يقولون ويفعلون أويرومون في الحالتين إنما هوجانب المحاكاة، هذه التي من جهة تأخذنا بعيداً إلى ماض، إذ يكون أشخاصٌ على درجة عالية من الرقي يمكن الاقتداء بهم، ومن جهة أخرى تذهب بنا بعيداً إنما إلى المستقبل لتعاد الصيغة، ويحضر الدور، التكرار في الجوهري: المأسوي كما هومسرحهم.
الناس كائنون في التاريخ، والتاريخ ليس أكثر من حدث، وما يسجّل هوالمؤثر فيهم، ولا يكون المؤثّر بفعله، إلا إذا تميّز بطابع المأسوي: التراجيدي، أي مواجهة الموت وتحمُّل النكبات، فالمحاكاة تستمد مشروعيتها من وجود حدث كان، وحدث يتكرر بينهما علاقة قرابة إلى درجة أن الأول يكاد يجعل الثاني على صورته، أوأن الثاني يكاد يتماهى مع الأول، ويتوسل صورته: هويته التي تجلوها الفاجعة، وهذا هوأساس مفهومmimesis.
وهنا يظهر الحكي، والحكي يكون زعماً ليس إلا، ولكنه زعم لا غنى لنا عن الاستماع إلى صوته، إنه صورة مركَّبة، مثال لا نستطيع ادعاء أنه حقيقة وهذا يفتننا جميعاً ونحن في متنه رغم كامل اليقين الذي يتلبسنا وهوأن الحكي لا يستحق الوقفة اللازمة، ورغم ذلك لا نكف عن الجري في ركب هذا الذي نستخف بصوته بقدر ما نسخر من ظله المتقطع. الحكي أصل من أصولنا الكبرى، عندما نعلم، وكما يتراءى لي، أننا في أعماقنا حكواتيون فيما بيننا، وفيما نعلِم به أنفسنا، ولوأننا كنا مبدعين هنا، كوننا في الإبداع لا نعلن تمرداً على القاعدة العالقة وهي تشدنا إليها، بقدر ما نوسّع حدودها، إذ نبتكر مثالاً لنا يهمس باسمه.
في ضوء هذا التحديد المشار إليه، لا تظهر المحاكاة وكأنها مفهوم حسابي، إنما هندسي، وعلى درجة عالية من الغموض والسحر الجاذب والضارب، لحظة إمعان النظر في سيَر الأشخاص الذين يعنينا أمرهم فكراً وفناً وأدباً.
إننا لا نحمّل المفهوم ما ليس فيه، بقدر ما نوجد المفهوم الذي لا يتعدى كونه طيفاً، شبحاً، قبلة التنين القاتلة أحياناً كثيرة، في الملمات أومنعطفات التاريخ، ونحن مستمتعون بذلك عملياً، وكأننا متفقون ضمنياً على الجاري.
وما قام به الألماني» ايريش آورباخ» ومن الذاكرة في عمله الفذ» محاكاة: الواقع كما يتصوره أدب الغرب»، يمثل جردة فائقة في تحرياتها الدلالية والكشوفية الخاصة وهي تغطي كامل المساحة الجغرافية الأوربية بحيّزها الأدبي، منذ عصر اليونان، بدءاً بـهوميروس إلى العصر الحديث، حيث يرتبط الكاتب بنموذج معين يرتسم عالماً حياً في متخيله، وطريقة تعامله معه.
إزاء ذلك يمكن التذكير بالشعر الجاهلي وأجيال الشعر العربي التي توافدت تاريخياً وإبداعياً بعده، والتحولات التي طرأت على المحاكاة، والتزاحم الشعري والنثري في تقاسمها، واستعادة اللحظة الشعرية الوارفة حديثاً، ثم السعي إلى ارتحال خارج حدود اللغة، والنهل من تجارب الآخرين، ليزداد مفهوم المحاكاة غنى وتعقيداً.
وفي مطلع المفهوم يكون الحد الذي يضع المعني إزاء ما يختار وكيف يختار، خشية الوقوع في المتاهة، لكأن التشديد على محاكاة ما، تسمية أوإيحاء، تأميم الذات من العسف بها، أوالاسم من المضاربة التي قد تخرجه من حقل الاعتبار الأدبي، ومن نطاق التذوق الجمالي للعالم الذي يشار إليه، إذ إن المحاكاة تكتسب صفة جمعية أكثر مما تكون فردية، وأن من يحاكي إنما يتجنب أذى يتهدده، أي يؤنس كينونته، وربما لأن عنفاً يقيم على التخوم المرسومة للثقافة ويربض في واعية الفرد أوخافيته، يشعَر به، لحظة التمادي في تجاوز المسموح به، لأن إخلالاً بقاعدة المحاكاة، تهديداً للأب العائلي، الجماعي يتراءى واضحاً، وبالتالي، فإن صمام أمان يحضر في الحال، عبر الإحالة دون استمرار الخرق، لتكون المحاكاة في وجه من وجوهها نوعاً من الختان الرمزي الفعلي والمشعور به، على أن صلة الوصل قائمة بين من يفكر بالكتابة أوأداء عمل ما، وما هومهتدى به داخله.
مكاشفة
أظن أن العلاقة الأصح للتعامل مع المحاكاة، إذا ما أريد لها أن تكتسب جنسية حضور معرفية أشمل، تكون من خلال ما أسمّيه بـ» تزييف المحاكاة»، نعم، تزييفها وليس هي ذاتها، كما هوالمتاح لنا بتفاوت فيما بيننا !
فنحن فيما أتينا عليه وما هوطي الصمت يسمّي المحاكاة باعتبارها جنساً لأنواع مكتشفة، تتطلب دائماً مكاشفة لها للاثباتها، وأخرى قيد الاكتشاف إلى ما نهاية ما بقيت الحياة، حيث إن كلاً منا، يعيش وفق أكثر من نموذج/ مثال/ محاكاة: ما هوواضح في شخص أوأكثر، وما هومركَّب بين الواقعي والخيالي، وما يجري ابتكاره، ولا يأتي في صيغة طفرة: قفزة في المجهول، إذ لا بد من شعرة ما تبقيه على تماس ما بسابقه، وفي الحالات كافة، يكون المتخيَّل قائماً بدفعات ومتفاوتة، إن اختلافنا يقوم على مناوشة المحظور، وتاريخ البشرية حافل بذلك، فكل محظور سرعان، ليكون في الانتظار محظور من نوع آخر، لتكون المحاكاة واقعة في حقل لغمي ليكون العبور المغامراتي مشتهى..، ربما لأن المحاكاة في الأساس انسجمت مع الرغبة العميقة القائمة بمهمة أدبية أوسواها، حتى لوافترضنا أن ثمة نوعاً من الميكانيكية في العلاقة، ولكن الأثر يظل ناطقاً بالفاعل الدائم إلى التذكير باسمه!
إن المساحة الهائلة للاتصالات على صعيد الكوكب الأرضي واجتياز مساحات فضائية في خدمة الأرضي، والتنوع الهائل في العلاقات الاجتماعية والميتاحدودية، كل ذلك أضفى على المحاكاة طابعاً من الغرائبية، أوحتى الكرنفالية حيث صار في الإمكان النظر في المحاكاة على أنها إقامة في دنيا الخيال، ليكون في وسع أي كان أن يعد نفسه لما هوغير مسبوق، وهوفي ظل التفجر المعلوماتي، وانفجار الدلالات، وبالتالي، أن يكون إزاء حقيقة رئيسة وهي إمكانية ضرب صور المحاكاة بعضها بالبعض الآخر، بما أن مفهوم المرجعية قد فقد مصداقيته، بما أن تزييف المحاكاة يتطلب من المبدع خصوصاً التنكر المستمر لصورته وهويغيّر في طريقة الكتابة أوالإبداع العائد إليه، فالمحاكاة هنا تحيل المثال إلى صورة من صور الذات كثيراً.
هل يعني هذا أن لا مجال للحديث عن المحاكاة، واعتبارها حديث خرافة في نهاية مطافنا التاريخي راهناً؟
مطلقاً، إنما يجد كل منا نفسه إزاء أفق أوسع، وتفتح إمكانات أكثر، وإثارة فضولية لافتة لمكاشفة المحاكاة، وأن ما أشير إليه سابقاً بـ» تزييف المحاكاة» في عالم تتقارب جهاته بقدر ما تتباعد، يستوجب الدخول في مرحلة تاريخية مختلفة، ربما هي ملحمية من نوع آخر، يكون الجميع أبطالاً وضحايا غالباً دون تحديد أسمائهم في المدى المجدي الأقصى للمفهوم السالف، ونحن نعيش عصر نجوم من طراز مغاير، نجوم الديجيتال الفعليين والمركَّبين والساعين إلى تعيين ظلالهم التي تخصهم، في مواقع لم تعد ثابتة وكل ما ينطلق منها بات نسبياً إلى درجة اضمحلال القيمة، في الوقت الذي تتراءى المحاكاة أمامنا محدَّدة بالمطلقات ومشاريعها الكبرى....!