تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أنتونين آرتو أوديسا جبال التراهومارا

ملحق ثقافي
2018/7/31
يوري هيرتز/ ترجمة: نور طلال نصرة

جاء في رسالة أنتونين آرتو التي أرسلها إلى جين بولهان بتاريخ 19 يوليو 1935، رئيس تحرير المجلة الفرنسية الجديدة، «أنه سمع منذ وقت طويل عن نزعة عميقة في المكسيك تناصر العودة لحضارة ما قبل كورتس».

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

مُعلِماً إيّاه بخطته للذهاب إلى المكسيك لتقديم سلسلة من المحاضرات ولدراسة الثقافات التقليدية والمعاصرة في مدينة مكسيكو، وطالباً منه المساعدة في الحصول على تكليف رسمي للبعثة من قِبل الحكومة الفرنسية، موضحاً بأنه يأمل أن يلقى في المكسيك مجتمعاً ثورياً قائماً على الأسس الميتافيزيقية القديمة، فلربما يتمكن من تطبيق رؤيته في رأب الصدع بين النفس والحضارة من خلال المسرح الكيميائي.‏‏

سافر آرتو من أوروبا على متن سفينة متجهة إلى المكسيك عام 1936 بعد أن تّم تكليفه رسمياً لدراسة الثقافة والفن المكسيكي. وقد كتب رسالة إلى بولهان، أخبره فيها أنه تم استقباله استقبالاً حسناً في المكسيك: «لقد فتحت لي الحكومة المكسيكية جميع أبوابها».‏‏

قدّم آرتو سلسة من المحاضرات في جامعة المكسيك حول السريالية والماركسية والمسرح والحضارة وأسطورة المكسيك القديمة. تم نشر جميع هذه المحاضرات بترجمتها الإسبانية في دار «الناسيونال» وفي دور نشر أخرى.‏‏

شرح آرتو في «السريالية والثورة» نقاط اختلافه مع الحركة، ووصف كيف تم طرده عام 1926، قائلاً: «لقد سألوني، ألست مهتماً بأمر الثورة؟ فأجبتهم، ثورتكم لا تعنيني، ما يعنيني هو ثورتي، لقد تخليت عن السريالية مذ أصبحت حزباً سياسياً».‏‏

يعتبر كتابه «الإنسان في مواجهة القدر» هجوماً على الماركسية وعلى المذهب العقلي في أوروبا. كما إن رفضه الكامل للحضارة الأوروبية هو ما جعله وحيداً في موقفه حتى ضمن روّاد باريس.‏‏

وبالرغم من معارضته لمسار الثقافة الأوروبية، فقد شغِلَت معظم إنتاجاته التجريبية مكانةً خاصة ضمن نصوص الأدب الكلاسيكي. كان الهدف من مهمة آرتو شبه الرسمية هو التعلّم من «الروح التائهة» في المكسيك القديمة، ليقدّم استنتاجاته عند عودته إلى أوروبا، لهذا أقرّ أنه يريد تسخير القوى الشامانية التي كانت ما قبل حضارة كولومبوس لإبطال الأيديولوجيا الأوروبية، ولعلاج ما قد يشعر أنه وباء يهدد وحدة الروح والجسم.‏‏

اتّجه آرتو إلى الريف الجبلي في مقاطعة «تاراهومارا» بمهمة مُراسِل لدار نشر الناسيونال، الأمر الذي مكنه من دخول الإقليم وحصوله على الدعم من قسم الفنون الجميلة في جامعة المكسيك. وحال عودته إلى مدينة المكسيك في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر، بدأت كتاباته تبصر النور في دار الناسيونال؛ حيث كشف آرتو في «جبل العلامات» عن المناظر الطبيعة الصخرية والقاسية لمقاطعة تاراهومارا.‏‏

بدأ افتتاحية كتابه «رقصة البيّوت» بوصفه لنفسه، في إحدى قرى الجبل، ثابتاً في مكانه، معدوم الإرادة، مسحوراً من قِبل سحرة تاراهومارا، بعد انتظار دام 28 يوماً لرؤية طقس البيّوت (نوع من الصبّار يستخرج منه المُخدّر). وبيأس كتَب َ»وصلت إلى هنا لأجد نفسي في نهاية الأمر على وشك الصِدام، من هذا المشهد الذي طالما تمنيت بلوغه لأستخلص عدّة رؤى، ولأشعر بنفسي تائهاً، وحيداً ومخدوعاً». هذه اللحظة التي اعتبر أنها هدفه المطلق في رحلته - وهي الاتصال بشكل مباشر مع التقاليد الشامانية الباقية من قبل حضارة كولومبوس - وجد نفسه مجرد مشاهد ضعيف، يكاد يقوى على النهوض والمشي خطوات قليلة وقد نفذ حماسه تقريباً، قائلاً:» كل هذا من أجل ماذا؟ من أجل رقصة؟ من أجل طقوس الهنود التائهين الذين لا يعرفون حتى مَن هم أو من أين أتوا، وعندما تسأل أحدهم يجيبك بقصص تقول إنهم أضاعوا السر وصلة الوصل بينهم». وعند عودته إلى رشده رأى المشعوذين يهبطون من الجبل متكئين على عصيّهم الضخمة، وقد بلغوا أخيراً مرحلة طقس البيّوت.‏‏

إن وصفه للبيئة التي حدثت فيها رقصة البيّوت جاء واضحاً وموجزاً في كل تفصيل خيالي، وقد كتب ذلك أثناء رحلته إلى تاراهومارا أو حالما عاد منها. لقد شاهد النار «ترتفع من جميع الاتجاهات نحو السماء»، وشاهد كيف تطحن النساء البيّوت «بقوة وحشية»، وكيف تُسحق الأرض تحت أقدام الكهنة، وكيف تنفخ النار إلى أعلى غصن شجرة لتشتعل الزوابع. تم إحياء هذا الطقس على شرف آرتو؛ حيث شاهد الكهنة مع العصيّ الخشبية وراقصيّ البيّوت يرتدون المئات من الأجراس الصغيرة. وهنا بدأ هاجسه حيال العصا التي استخدمها سَحرة تاراهومارا في الحفلة متسائلاً: ماذا يُلقنهم مدرّس طقوس البيّوت خلال السنوات الثلاث التي يمضونها في الغابة عندما يتعلمون سر العصا؟ انهار آرتو بعد ذلك من الإجهاد الذي تعرض له بسبب طقوس رقصة البيّوت التي أقيمت حوله وفوق رأسه، وبحلول الفجر انتهت الطقوس وأصابته حالة من الانفصام وكأنه رجل متحجّر، تصعُب حركته ويحتاج مساعدة اثنين من الرجال كي يعتلي حصانه.‏‏

على الرغم من أن آرتو قد بلغ هدفه من الرحلة التي قام بها إلى المكسيك ومقاطعة تاراهومارا، وهو أن يسافر عبر الزمان والمكان في آن معاً ليبلغ طقوس الشامانية ما قبل حضارة كولومبوس - إلاّ أنّ ضعفه الجسدي وحالته العقلية حالت دون إدراكه لسر رقصة البيّوت.‏‏

عاد آرتو إلى إيرلندا وكان يحمل عصا سحرية خلال رحلته، ما أثار الشكوك حوله، فأدّى ذلك إلى حجزه ثم ترحيله. كان يعتقد أن هذه العصا تعود للقديس باتريك، وقد قرر آرتو أن يعيدها إلى موطنها الأصلي. في دبلن، كان آرتو جائعاً ومعدماً، وقد بحث عن مأوى له في الدير. أثارت هذه العصا الشكوك حوله، وتم اعتقاله في حادث عنيف، وأثناء ذلك فُقدت العصا. تمت إعادته إلى فرنسا، ودخل مستشفى للأمراض العقلية حال نزوله في ميناء لوهافر.‏‏

لقد عمل على إضفاء العناصر المسيحية على الصورة الوثنية لحفلة إحياء طقوس البيوت، والتي بدأت مع الهذيان الذي عاشه في مشهد ولادة المسيح وتناوله في كتاب «رقصة البيّوت» وقد قام آرتو عام 1947 بمراجعات للتخفيف من الشروحات المسيحية في الملحق الذي دونه، ثم رفض الاعتراف بـ «طقس البيّوت في ريف تاراهومارا» بعد إطلاق سراحه من رودز عام 1947 ، وصرّح في الهامش المجتزأ من رسالتين كتبهما للناشِر، بأنه قد كتبه بعد سبعة أعوام من علاجه «وهو في حالة عقلية غير متزنة» بعد اتهامه بأنه مرتد، بعد أن أشار في «ملحق الرحلة إلى تاراهومارا» كتبه عام 1944 إلى أن السَحرة كالكهنة وربط بين إله المسيح والبيّوت.‏‏

إن إعادة الصياغة التي قام بها آرتو للنصوص، كانت لإيفاء الالتزامات التعاقدية مع الناشر من أجل عمل أدبي لمجموعة تدعى « التاراهومارا» حيث أعاد آرتو تنظيم مجموعة الطقوس في أبيات من الشعر. وقد صوّر في القصيدة التي نظمها ستة رجال يرتدون لباساً أبيض ويحملون صلباناً مصنوعة من «عودَين مربوطين بحبل قذر»، ويحملون معهم خلاصة ما جمعه آرتو من طقوس تاراهومارا. كانت رحلة آرتو إلى مقاطعة تاراهومارا وتجواله عبر الجبال لالتقاط سر رقصة البيّوت بمثابة أوديسة في داخله لم يعُد منها.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية