تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


هيجانات العباقرة كما يحللها علم النفس

ملحق ثقافي
2018/7/31
إعداد: رشا سلوم

ثمة من يذهب إلى القول إن المبدع مريض نفسي، وليس ما يقدمه إلا دليلاً على ذلك وتنفيساً له، بمعنى آخر، وراء كل حالة إبداع مرض نفسي عميق من حسن حظ صاحبه أنه تفجر إبداعاً وليس جنوناً،

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

وعلى هذا أيضاً يصح القول إن الجنون هو آخر مراحل العبقرية.‏‏‏

الظاهرة عالمية، وقد بدت في أدبنا العربي منذ أن كان مجانين الحب، مجنون ليلى، وبثينة، وغيرهن، وقياساً على هذا الجنون ثمة من درس الظاهرة وتوقف عندها مولاً، بدءاً من فرويد إلى غيره من الباحثين المعاصرين، وقد عادت إلى الواجهة في الغرب، يبحثون فيها، وفي كواليس وأسرار الكتاب والمبدعين، ولعل آخر ما صدر في باريس منذ فترة كتاب في هذا الاتجاه، أضاء عليه هاشم صالح، وتناوله دراسة وتحليلاً ونقداً. يرى صالح أننا عندما نتحدث عن الأدباء الكبار، نحن نعتقد عموماً أنهم كانوا سعداء يعيشون حياة رغيدة ويستمتعون بأضواء الشهرة والمجد. وربما اعتقدنا أنهم ما أصبحوا كباراً إلا لتفوقهم في نظم الشعر والقوافي أو سرد الروايات الرائعة، ولكننا ننسى شيئاً آخر هو الأكثر حسماً وأهمية: إصابتهم بمرض شخصي أو بفاجعة حقيقية هي التي دفعتهم دفعاً لأن يصبحوا عباقرة. ولذا فلا يمكن التحدث عن هؤلاء العباقرة دون ذكر الجراحات الشخصية. فالواقع أن هذه هي التي تجعل منهم كتاباً كباراً. قد تختلف هذه الجراحات والفواجع من كاتب إلى آخر ولكن هناك جرحاً ما، جرح حقيقي غائر في الأعماق والأقاصي، جرح ينزف باستمرار.. هذا ما نفهمه من ذلك الكتاب الذي أصدره مؤخراً النجم التلفزيوني الفرنسي اللامع باتريك بوافر دارفور.‏‏‏

كرس دارفور لهؤلاء العباقرة المفجوعين بألف شكل وشكل كتاباً ممتعاً بعنوان: ثناء على الكتاب المنحوسين. وقد استعرض منهم على مدار الصفحات قصة ما لا يقل عن ثمانين كاتباً عركتهم الحياة، أو نبذهم المجتمع، أو لم يحالفهم الحظ في الوجود. نذكر من بينهم، على سبيل المثال: شارل بودلير، أنتونين آرتو، صموئيل بيكيت، دوستويفسكي، غارسيا لوركا، كافكا، لوتريامون، غي دو موباسان، جيرار دو نيرفال، نيتشه، نوفاليس، إدغار آلان بو، فيرلين، فيرجينيا وولف، وستيفان زفايغ، إلخ.. بالطبع لن نستطيع التحدث عنهم جميعاً في هذه العجالة، وإنما سنكتفي بالتوقف عند بعضهم.‏‏‏

آرتو‏‏‏

البداية كانت سعيدة بالنسبة إلى هذا الكاتب الذي سيلخص في شخصه لاحقاً كل آلام العصر وفواجعه. فقد ولد في أحضان عائلة غنية أحبته وراعته وأحاطته بكل أنواع العناية والاهتمام. ولكنه منذ سن الرابعة أصيب بمرض عصبي عجيب ونادر وابتدأ الكابوس. ولم تنجح كل أنواع العلاجات في إنقاذه. فراح يصارع الأشباح النفسية التي تريد القضاء عليه أو هكذا يتوهم. ولكن على الرغم من كل ذلك فقد نبغ في الشعر والمسرح. كل شيء يحصل كما لو أن الطبيعة تحرمك من شيء لكي تعطيك شيئا آخر. يقول المؤلف: كل حياته كانت سلسلة من الفواجع والأمراض والصدمات النفسية. لقد سجنوه في المصحات العقلية طيلة قسم كبير من حياته، ومع ذلك استطاع أن يبدع في الشعر والمسرح. وكان يشعر أن هذا الإبداع هو الحل الوحيد والخلاص الذي ينقذه من أزماته النفسية المتفاقمة. قد ترعبنا آلامه المبرحة ولكننا نحب إبداعه، جنونه الخلاق.. لقد دخل في الأدب كما يدخل آخرون في سلك الكهنوت والدين المسيحي. وقد اعترف في إحدى اللحظات بهذا الكلام الهام: أعاني من مرض روحي ونفساني رهيب. أنا تحت نفسي، هذا ما أعرفه، ولكني أقبل بكل هذا العذاب لكي لا أموت كلياً.‏‏‏

ولكن أنتونين آرتو لم يمت من جنونه كما تصور. ولم ينتحر إطلاقاً. وإنما مات من السرطان. لكأنه لا تكفيه كل هذه العذابات والفواجع حتى ينضاف إليها مرض السرطان! شيء عجيب فعلاً أنه لا حظ له في الحياة. إنها حياة مشكلة من سلسلة متلاحقة من الكوارث ولكن مضاءة من وقت إلى آخر من قبل بعض أعظم نصوص القرن. حقاً لقد دفع أنتونين آرتو ثمن إبداعه غالياً. ومن بينها كتابه الرائع عن قرينه في الإبداع والعذاب الرسام الهولندي الشهير فان كوخ. فقد كرس له كتاباً من أروع ما يكون بعنوان: فان كوخ المنتحر من قبل المجتمع. وليس المنتحر من تلقاء ذاته. المجتمع هو الذي نحره أو قتله مثلما قتل آرتو ذاته. المجتمع قد يجننك أيضاً إذا ما اعتبرك شاذاً خارجاً عن مسلك القطيع. يقول فيه هذه العبارة: لم يكتب أحد ولم يبدع رسماً أو نحتاً أو فناً إلا لكي يخرج من الجحيم.‏‏‏

دوستويفسكي‏‏‏

مجنون آخر لا يقل عبقرية وعظمة إن لم يزد أضعافاً مضاعفة: إنه فيدور دوستويفسكي. في السابعة عشرة من عمره كتب رسالة إلى أخيه يقول فيها: “عندي مشروع كبير: أن أصبح مجنوناً. ليتدبر الناس أمرهم، ليعالجونني إذا استطاعوا، ليحاولوا أن يعيدوا إليّ العقل”. لماذا كتب دوستويفسكي هذا الكلام في مثل هذه السن المبكرة؟ هل كان يرهص بما سيحصل له بعد عشرين سنة عندما حكم عليه بالإعدام ثم عفى عنه القيصر في آخر لحظة قبل إطلاق النار بثوان؟ هل كان يدرك بشكل لاواعٍ أنهم سيرسلونه إلى مكان التعذيب في سيبيريا حيث سيقضي أربع سنوات من الجحيم؟ من المعلوم أنه بعدئذ أصيب بداء الصرع أو ما يدعى مرض النقطة. وهو مرض كان يصرعه أرضاً عندما يجيئه. ولكنه لم يصبح مجنوناً فقط وإنما أكبر عبقري في تاريخ الآداب الروسية ربما باستثناء تولستوي. يضاف إلى ذلك أن هناك سبباً آخر لجنون دوستويفسكي الإبداعي الخارق هو: أنه كان طيلة الوقت مشغولاً بالسؤال الميتافيزيقي الأعظم: من أين جئنا، وإلى أين المصير؟ هذا السؤال سوف يشغله على مدار كتبه ورواياته ولن يتركه يهدأ لحظة واحدة حتى وصل إلى بر الأمان، إلى الإيمان بالله عز وجل. كان يقول وحده الإيمان بالله ينقذنا ويخلصنا.‏‏‏

يقول المؤلف ما معناه:‏‏‏

عندما نغطس في سيرته الذاتية ومؤلفاته العظيمة، الضخمة، الهائلة، فإننا نقتنع فوراً بجنونه. لا يمكن أن يكتب مثل هذه الروايات العبقرية شخص طبيعي. لا نجد فيها إلا الأهواء الجامحة المتفاقمة، والعنف، والسوداوية. لا نجد فيها إلا تصويراً للبشرية على هيئة مرعبة، وسخة، دنيئة، خسيسة، مشجية، رائعة، في غاية السمو. كل ذلك دفعة واحدة. ينبغي علينا الاعتراف: دوستويفسكي هو عملاق الأدب العالمي وليس فقط الروسي. ولكنه على المستوى الشخصي إنسان غريب الشكل، هوسي، هائج، متصوف، غارق في ملكوت الله. إنه يشعر بوجود الله في داخله، هذا شيء مؤكد. ولكنه في ذات الوقت يشعر بوجود الشيطان: هذا الشيطان اللابد، الكامن، المتربص، في أعماق روحه، أو في الطبقات السفلية لشخصيته. وهذا الشيطان قد يتخذ شكل الشك الذي ينهشه نهشاً من الداخل. لقد كان دوستويفسكي شكاكاً وظل طيلة حياته رجلاً قلقاً إلى أقصى حدود القلق. إذا كان الجنون تصرفات خارجة على المعايير المشتركة، إذا كان هيجانات مفرطة، مبالغات قصوى، هلوسات خارقة، عذابات هائلة، فإن دوستويفسكي كان مجنوناً من دون أدنى شك. ولكنه جنون العباقرة الخلاقين لا جنون الأشخاص العاديين. كل روايات دوستويفسكي كانت عبارة عن مرايا تعكس له جنونه، ولكنها اليوم تعكس لنا عبقريته.‏‏‏

في 8 يناير من عام 1880 ألقى دوستويفسكي خطابه الشهير بمناسبة مرور مائة عام على موت - أكاد أقول استشهاد - شاعر روسيا الأعظم بوشكين. وقد ختمه بالقول: “لقد مات الشاعر في أوج قواه ونضجه وإمكانياته وحمل معه إلى القبر سراً كبيراً. وها نحن الآن مدعوون لأن نسبر هذا السر بدونه”. وبعد أن انتهى من إلقاء الخطاب هجم عليه الجمهور لكي يقبل يديه وركبتيه. وراحوا يصرخون: هذا هو النبي، إنه نبي روسيا. وتساقطوا على قدميه تبجيلاً وإعجاباً لا حدود له. وكسف كل أدباء روسيا الحاضرين ومن بينهم تورغينيف.‏‏‏

وفي الختام يقول المؤلف: لم يعد دوستويفسكي كاتباً مداناً ولا ملعوناً بعد أن حاز نهائياً على روح البشر وعقولهم. وبعد القرن العشرين الذي شهد انتصار البربرية النازية والفاشية ربما سيكون القرن الحادي والعشرون مختلفاً. ربما سيكون قرناً دوستويفسكياً: أقصد أخوياً وإنسانياً بالمعنى الرائع لكلمة النزعة الأخوية والإنسانية. فقد كان في أعماقه إنساناً من أعمق ما يكون.‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية