علماً أن الليبيين لا يسيّرون مثل هذا النوع من الطائرات، ولا يدفعون ثمناً لاقتنائها. لكن الاقتصاد المزدهر لهذا البلد جعله مسرحاً للصراعات والتحالفات سواء كانت عربية أم دولية، فالجميع يرغب في تحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية واقتصادية ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
لكن السؤال الذي يجب طرحه في ضوء الأحداث الراهنة لماذا يعتبر الصراع في ليبيا ذا أهمية بالنسبة لتركيا التي تعاني ضائقة مالية وعزلة على نحو متزايد؟
منذ عام 2011، رأى المحللون السياسيون أن المصلحة التركية في ليبيا تقوم على جني الفوائد الإيديولوجية والجيوسياسية، إذ نجد العثماني الجديد الرئيس رجب أردوغان قد أخذ بالتوجه نحو دعم الحركات الإسلامية المشابهة لحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه، وإلى توسيع تحالفه الإقليمي مع قطر في شمال أفريقيا، ولذلك دعمت تركيا الجماعات الليبية المقربة من جماعة الإخوان المسلمين في الحرب الأهلية أو العشائرية المغذاة خارجياً.
ومع ذلك، فإننا نرى أن دافع أردوغان الرئيس لدخول مسرح الأحداث في ليبيا كان جراء تدهور الاقتصاد التركي على مدار العامين الماضيين ورؤيته بأن ليبيا تمثل فرصة يجب استغلالها لتحقيق المزيد من المكاسب المشروعة وغير المشروعة، وخاصة أن جزءاً كبيراً من الأموال الفاسدة في غرب ليبيا تغسل في تركيا، إذ تحتفظ الشركات التركية، وخاصة في مجال البناء، بأكثر من 19 مليار دولار من العقود المعلقة.
وفي السابع والعشرين من الشهر المنصرم ظهر اللغز الاقتصادي، إذ وقعت ما تسمى حكومة الوفاق الوطني مذكرتي تفاهم مع تركيا تتعلق المذكرة الأولى بترسيم الحدود الملاحية في البحر الأبيض المتوسط بين جنوب غرب تركيا وشمال شرق ليبيا، الأمر الذي أثار غضب الحكومة اليونانية التي اعتبرت الاتفاقية تعدياً على مياهها الإقليمية، ودعمتها في ذلك مصر وقبرص.
تسببت الاتفاقية في طرد السفير الليبي لدى اليونان بعد عدم الإفصاح عن بنود الاتفاقية. لكن من المعلوم بأن تركيا دولة فقيرة في مواردها من النفط والغاز الطبيعي وتعتمد على استيراد الوقود بالكامل تقريباً. إذ تستورد 99% من استهلاكها الغاز الطبيعي و93% من استهلاك البترول.
لكن أغلب اتفاقيات الغاز ستنتهي بحلول عام 2021 و2022 ما جعلها تسعى للبحث عن مصادر بديلة ولاسيما في ضوء تغير المشهد السياسي وتورطها في نزاعات المنطقة وتحديداً اجتياحها واحتلالها للأراضي السورية. لذلك فإن ليبيا المصدر الأقرب والأكثر ضماناً لسد حاجاتها من البترول والغاز، فاتفاق ترسيم الحدود معها يضمن لتركيا نصيباً من موارد الغاز الطبيعي تحت مياه البحر المتوسط. أما المذكرة الثانية فتتعلق بإرسال قوات تركية إلى ليبيا إذا طلبت «الوفاق الوطني» دعماً عسكرياً إذ تشمل هذه المذكرة التعاون في مجالات الأمن والتدريب العسكري، والصناعات الدفاعية، وغيرها من أشكال التنسيق العسكري. وبالتالي. يبدو من الواضح أن تركيا كانت قادرة فقط على إقناع ما يسمى الوفاق الوطني بالموافقة على الصفقة البحرية في مقابل زيادة الدعم الأمني للقوات المتحالفة مع الجيش الشعبي لتحارب الجيش الوطني الليبي في طرابلس.
ورداً على الخطوة الأخيرة التي اتخذتها تركيا بغية سحق حقوق الدول الأخرى في البحر المتوسط، قدمت اليونان شكوى إلى مجلس الأمن، في حين عمدت مصر إلى القيام بمناورات عسكرية بالقرب من ساحلها المتوسطي. وسبق تلك الإجراءات إعلان قادة الاتحاد الأوروبي أن الاتفاقية تعد انتهاكاً للقانون الدولي.
ومع قتامة هذا الواقع، لا يبدو أن تركيا على استعداد للتراجع عما عزمت القيام به، إذ يلاحظ أن شمال قبرص التي تحظى بالدعم التركي قد تلقت طائرات من دون طيار بهدف المساعدة في مشاريع التنقيب عن الغاز بالقرب من الجزيرة. لكن إنشاء قاعدة عسكرية في ليبيا ربما يكون أكبر خطأ إستراتيجي لأردوغان.
وبتقديرنا إن رجل تركيا العجوز يمر بأوقات عصيبة جراء الصراع السياسي الداخلي، إذ أطلق حليفه ورئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو حزباً سياسياً جديداً باسم «حزب المستقبل» الأمر الذي يشكل تهديداً لحزب العدالة والتنمية الحاكم، كما عمد وزير المالية الأسبق علي باباجان إلى تشكيل حزب انفصالي آخر سيعلن عنه في مطلع العام المقبل. وفي هذه الأثناء ارتفعت شعبية رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو. وكل ذلك كان نتيجة تزايد الغضب الشعبي جراء تردي الأوضاع الاقتصادية وولوج البلاد في أزمة مالية إذ شهدت الليرة تراجعاً في الصرف بلغ 30% الأمر الذي انعكس تضخماً نقدياً طال أرباح ومدخرات الأتراك، يضاف إلى ذلك ارتفاع معدلات البطالة والمزيد من الاعتقالات للمعارضين ومصادرة الحريات وممارسة الاستبداد والفاشية.
لذلك يسعى أردوغان إلى استغلال الوضع في ليبيا بهدف كسب ود شعبه، لكنه بتصرفه هذا يخاطر بمقتل مئات الجنود الأتراك للدفاع عن الوفاق الوطني الحكومة ذات الطابع الإخواني وتقع على بعد آلاف الأميال.
إن هذه الاتفاقية التي تم التوافق عليها تعد فصلاً جديداً من التدخل التركي السافر في الشؤون الليبية وتواطؤاً غير مسبوق من حكومة الوفاق الوطني، ومن الحكمة السياسية أن يعمل الجانبان على تجنب اتخاذ أي خطوات تزيد من حدة توتر الأوضاع المعقدة في ليبيا ومنطقة البحر المتوسط برمتها.