تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


دروس من القرن الثامن عشر

كتب
الأربعاء 3-2-2010
سلمان عزالدين

عندما تنهي قراءة رواية (جاك القدري) فإنك ستواجه السؤال نفسه الذي طرحه جاك شويبه وهو يهم بالكتابة عنها: (ألا يزال ممكناً أن نأتي بجديد من بعد كل ما كتب في هذا العمل؟).

يبدو الجواب الأكثر وجاهة هو: (لا)، غير إنك سرعان ما تجد نفسك تسعى جاهداً، وعلى الأرجح فإنك ستنجح، ذلك أن هذا الكتاب هو واحد من تلك الكتب التي (تملك عدداً لا متناهياً من المعاني)، أو على الأقل (تملك معان بعدد قرائها).‏

الوقوع في الحب، وولادة الابن البكر، والنجاة من الموت.. أشياء تحدث كل يوم للبشر، لجميع البشر، منذ آلاف السنين، ومع ذلك فهي تكتسب طزاجة المرة الأولى حالما تحدث لك، لك شخصياً هذه المرة.. وكذلك هي الكتب العظيمة، وهكذا ولمجرد أنك اكتشفت للتو رواية جاك القدري، التي كتبها ديدرو في القرن الثامن عشر، فيحق لك أن تحتفي بها وكأنها صدرت اليوم..‏

يبرز اسم دنيس ديدرو (1713 ـ 1784) كواحد من أهم قادة حركة التنوير في فرنسا، ورغم أنه عُرف أساساً كفيلسوف ومنظر سياسي ورئيس تحرير لأول موسوعة حديثة (إنسايكلوپيدي)، إلا إن الكاتب الفرنسي التشيكي ميلان كونديرا يقول: (يمكن أن نفهم تاريخ الفلسفة بدون معرفة محاولات ديدرو كموسوعي كبير، لكني ألح: قد يبقى تاريخ الرواية غير مفهوم وغير كامل بدون رواية جاك القدري، بل أكثر من ذلك أقول بأن هذه الرواية يلحقها الضرر عندما يتم التعرض لها فقط في إطار مجموع كتابات ديدرو، وليس في سياق تاريخ الرواية العالمية).‏

ينسج ديدرو على منوال دونكيشوت، فهنا ثمة فارس وتابعه، يرتحلان في مغامرة طويلة، لكن رحلة جاك وسيده بلا هدف ولا وجهة محددة (كيف تلاقيا؟ مصادفة، مثلما يتلاقى كافة الناس. كيف يدعيان؟ بم يهمك ذلك؟ من أين جاءا؟ من المكان الأقرب. إلى أين هما ذاهبان؟ وهل يعرف المرء إلى أين هو ذاهب؟)، وكذلك فالعلاقة بينهما ليست بصرامة العلاقة التي ربطت دونكيشوت بتابعه سانشو، فجاك، الممسك بزمام الحكاية الرئيسية، ينجح في قلب المعادلة، محولاً سيده إلى تابع مطيع.‏

وبما إن الرحلة طويلة وبلا هدف، فقد تحتم على جاك أن يملأها بحكاية غرامياته، هذه الحكاية التي تُقاطَع ألف مرة ومرة بألف حكاية وحكاية، وما إن تستأنف حتى يخرج لهما عابر سبيل أو صاحب نزل أو رفيق سفر ليروي بدوره حكاية ما.. هكذا تتعدد الحكايات وتتشابك، حتى ينطبق على الرواية ما قاله بورخيس عن ألف ليلة وليلة: (كتاب لا متناه)، تشعر أنه سيمتد إلى ما بعد حياتك.. وأبطال الحكايا فرسان، وصعاليك، ومحتالون ظرفاء، وعشاق خائبون، ونساء غريبات الأطوار...‏

ولا يوفر البطلان فرصة لملء الفواصل والاستراحات بالتفلسف، فيستعرضان أفكارهما عن العالم والحياة (القدر والجبر والجدوى والأخلاق والحب والموت..).‏

الرواية مترعة بالمرح واللعب والمفارقات اللطيفة، تمضي بسرعة خاطفة (رغم شعورك بلا نهائيتها) بلا أثر للتجهم أو الجدية القاتمة أو الوصف السقيم، لكن أكثر ما يمنحها ألقها، هو ذلك الأسلوب الفريد الذي قدم به ديدرو الراوي، إذ يطل هذا برأسه بين فينة وأخرى، حاشراً نفسه وسط أحداث الرواية (حسناً أيها القارئ بإمكاني الآن أن أجعل جاك يقع في حفرة فتدق عنقه لكني لن أفعل... حقاً جاك هو الذي قال هذه الكلمة؟ لا بصراحة، أنا من كتبها، ولم يكن لجاك أن يعرفها...).‏

فضلاً عن المتعة المتجددة التي لا تنضب، فإن (جاك القدري) تقدم لنا درساً مفيداً.. غير أن كلمة درس قد تحيل إلى الوعظ، وهو أبعد ما يكون عن الرواية وكاتبها، لنقل إذاً إنها تقدم دحضاً لأسطورة بدأت تتسلل إلى الأدب السوري، مفادها:‏

(بما إننا في عصر السرعة، وغلبة وسائل الاتصال الحديثة، وسيطرة الصورة.. فنحن نحتاج إلى رواية مختلفة، سريعة، بسيطة، متخففة من الأفكار الثقيلة..)، وكنا سنأخذ هذا الكلام على محمل الجد، لولا ذلك التجسيد الذي اتخذه على أرض الواقع: روايات (دايت) خالية من أي تأمل أو رؤية أو انشغال حقيقي بالعالم.‏

والمشكلة أن هناك خلطاً (متعمداً أو غير متعمد) بين ضرورة التخفف من الشعارات وعدم التمسح بالقضايا الكبرى، وبين الخلو من أي تأمل، أو أي زاوية رؤية أصيلة، أو أي حصيلة معرفية أو جمالية، وكذلك فهناك إصرار على اقتران التجديد بالسطحية...‏

ديدرو فيلسوف، ولا شك أن روايته عكست كثيراً من رؤاه وانشغالاته الفكرية، لكنها رغم ذلك جاءت رشيقة، خفيفة الظل، وبسيطة... ذلك أن خفة الظل والرشاقة والبساطة لا تحتاج إلى الانعتاق من الأفكار والتأمل، بل إلى روح عذبة وموهبة حقيقية..‏

نحن في عصر مختلف بالتأكيد، لكن ذلك لا يعني أننا لم نعد بحاجة إلى تأمل الحياة من حولنا، وإلى تجديد أفكارنا وانطباعاتنا، وإلى وضع رؤيتنا للعالم على المحك، بل وإلى التهكم من أنفسنا ومما يحيط بنا... والرواية كانت، وربما تبقى، هي وسيلتنا الجميلة المثلى إلى كل ذلك.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية