تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


هكذا تكلم محمود درويش

كتب
الأربعاء 3-2-2010
مها محفوض محمد

«حك ّ حرفاً بحرف تولد نجمة. قرّب حرفاً من حرف تسمع صوت المطر، ضع حرفاً على حرف تجد اسمك مرسوماً كسلم قليل الدرج»

هكذا يحول الحروف الخرساء إلى أكوان وناس ومشاعر وحالات.‏

محمود درويش نوع آخر من اللاعبين بالحروف والخالقين من الحروف كوناً، يلعب بالحرف من حيث هو مبدع كبير، يخلق من الحروف أكواناً وجمالات وبشراً بإتقانه الإبداعي المعرفي للجمع بين الحروف والكلمات والجمل وصيرورتها قصائد وملاحم ومشاعر حب في نبضات القلب وأقاليم الجسد وأغوار الروح.‏

بمناسبة مرور عام على هذا الرحيل الفاجع وبمبادرة من مركز دراسات الوحدة العربية قدمت نخبة من ألمع النقاد والكتّاب العرب المعاصرين شهادات ودراسات في أعمال محمود درويش الشعرية والنثرية مجموعة في كتاب بعنوان: «هكذا تكلم محمود درويش- دراسات في ذكرى رحيله» ذلك وفاء للفقيد الكبير واعترافاً بالدور والمكانة اللذين كانا له في الثقافة العربية المعاصرة.‏

يستهل الكتاب أستاذ الفلسفة عبد الإله بلقزيز شارحاً كيف نهض محمود درويش بالقصيدة العربية يقول بلقزيز:‏

ما اكتهلت القصيدة حين بدأ محمود درويش يكتب شعراً لكنها عثرت في صوته على إكسير الحياة.‏

كان لايزال لديها ما تفشيه من أسرار الجمال الذي تختزنه اللغة والذاكرة والقرائح المصقولة وكان ولايزال يسعها أن تقدم شهادة على أن في مُكن الصورة الشعرية أن تقول بلغتها الخاصة ما قد تتلعثم مفردات الفكر في الإفصاح عنه.‏

ما اكتهلت القصيدة حين بدأ محمود درويش لكنها انتبهت إليه فجأة، أخذها سحر صوت شاب ينبعث من داخل القفص المقفل يقول بمفرداتها ما كانت السياسة تحتكر قوله منذ زمن طويل. هي قصيدة جديدة افترش لها السياب أرض العراق وتاريخه وسقاها من دجلته وفراته، ثم جاء درويش يأخذها إلى فلسطين كي تكبر بين الصخر والجمر، ترعى في الزعتر والكرم وتشهد علـى القتل اليومي للمعنى الإنساني.‏

في قصيدة درويش تقرأ ذاتاً تأبى حراسة خبيئتها، ذاتاً روضت نفسها على الاعتراف وتكفيك القصيدة لتبصر كيف قطع وعيه الشوط الطويل ومن أي شعاب مر ومن صادف من الشعراء والكتاب والأنبياء على الطريق، فهو والقصيدة واحد: يقولها وتقوله يتواطأان على كينونة عصية على القسمة والتمييز.‏

محمد جمال باروت بحث في الرمز الديناميكي عند درويش وانتقاله من الرمز التعبيري إلى الرمز التكويني يقول: يزخر شعر درويش بالرموز الديناميكية وتتداخل في شعره وتتبادل الوظائف فيما بينها، بحيث يقوم الرمز على قوة التكثيف والامتصاص والتحويل والإرجاع.‏

في شعر درويش حنين سحيق إلى البدء- الجذر الأول في التكوين، أول النخل، أول التكوين يعود بالشعر إلى ينابيعه الأفلاطونية المحدثة من حيث إن الشعر هو اللغة العليا للعالم، كان شاعر «عذاب» البشر والبشر الفلسطينيين وروح «مسيرة آلامهم» وتطلعهم لظهور «المخلّص» ونقل مشكلاتهم إلى الميتافيزيقيا الكبرى بقدر ما كان شاعر المطلق.‏

فيصل دراج تحدث عن دلالة الأرض في القصيدة المتحولة: بعد أن أصبح درويش شاعراً رومانسياً بامتياز محا مسافات كثيرة: لم يبق خارج الأرض ولم تعد الأرض خارجه فهو الأرض في داخلها وخارجها وما عادت البلاد قريبة منه أو بعيدة بعد أن تقمصته الأرض وتقمصها قائلاً بخلاص أخير.‏

وعن انتقال درويش من شعر المقاومة إلى شعر الإنسانية يقول فخري صالح:‏

في هذا المفصل من مفاصل تجربته يصبح درويش واحداً من كبار شعراء العالم في القرن العشرين من خلال تركيزه على المشترك الإنساني وقدرته على صوغ الشخصي والجماعي الفلسطيني بطريقة بعيدة عن الشعاري والبطولي الذي ميّز التجربة الفلسطينية، لقد أصبح صانع أساطير يولد حكايات ويبني عالماً أسطورياً تتمازج فيه حكايات الشعوب وأحلامها في أرض القصيدة التي تسعى إلى وضع حكاية الفلسطينيين في أفقها الكوني وتخليصها من محليتها.‏

وقد كتب منير العكش (مستعيراً) قتلناك يا آخر الشعراء:‏

كل كلمة قالها أو كتبها درويش كانت تحدياً لمحاولات المحو اللئيم المتعمد للذاكرة الفلسطينية، أبداً لم يخطر بباله أن بعض أصدقائه لم يصادقوه إلا ليقتلوا شاعر المقاومة فيه ويدفنوا حياته وشعره وذاكرته في أوسلو، لهذا الشمول وهذا السمو على هؤلاء الصغار نجد في قصائده ثروة هائلة من العاديات الإنسانية الحميمية المكنوزة تحت سطح الكلمات، إننا نعثر هنا وهناك على معالم الحياة الماضية والحاضرة والمقبلة لكل فلسطين.‏

أما مارسيل خليفة توءم درويش الثقافي اللذان صنعا معاً حالة ثقافية وإبداعية مميزة ونادرة في الثقافة العربية المعاصرة، جمعا جميل الموسيقا إلى جميل الشعر حتى كادت خطوط الفصل تضيع آثاراً فقد كتب إلى رفيقه الراحل:‏

وحدي هنا يفتتني الغياب في عبق النهار، في تيه لذة الأزهار تحت رذاذ المطر الندي، أتذكرك وحنين خفي إلى رفقتك، يبللني الهواء، يمسني شغف حنون أتذكر عودتنا ذات مساء من جنوبي الجنوب تقاسمنا الطريق وقطيع الماعز الذاهب إلى حظيرته يخفي ثغاءً مبحوحاً من فرط وطأة المساء، قلت لي يومها: ما أجمل هذه البلاد وهؤلاء الناس الفقراء البسطاء الطيبين يحلمون بصياغة الحياة ولا يتوبون عن أحلامهم، أعلن انتمائي إلى جهاتهم.‏

كيف اخترقت قلوبنا يا محمود؟ سنحمل قمح روحك ونزرعه فينا، نشتهي بريق حضورك لنستعيد الدهشة الأولى. أذرف دمع الكلام وأناجيك، كلما نهدت في منامي يخفق قلبي.‏

هل سأجد ما يكفي من الكلمات لأكتبك..‏

هل سأجد ما يكفي من الميلوديات لأغنيك..‏

هل سأجد ما يكفي من النوتات لأعزفك.‏

موقع درويش على خريطة الشعر العربي يتمثل في طاقته الخلاقة في تلقيح هذا الشعر بغبار طلع الكتابات الشعرية العالمية المميزة، بشعر غارسيا لوركا ووليم بتلر وبابلو نيرودا وغيرهم من الشعراء الكبار الذين تألقوا في ذاكرة الشعر العالمي ولأنه عرف كيف يزوج التراجيديا الفلسطينية بالتراجيديات البشرية وعذابات الإنسان في كل زمان ومكان فقد أصبح وبعد رحيله واحداً من شعراء العالم الكبار.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية