تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الرواية بوصفها بناءً جدرانه من شعر!

كتب
الأربعاء 3-2-2010
لميس علي

(بكيف) عالي المستوى ينسج قلم عبير إسبر في روايتها (منازل الغياب) طقسها الروائي.. تشيد عمارتها الخاصة بكيفية تتمايز عما أُلف به سير الروايات الاعتيادي،

لنا أن نشبه بناءها الروائي بمنزل جدرانه من شعر.. عملها قائم على أساسيات فن السرد.. حبكة.. شخصيات.. زمن، وما شابه.. بناء يحتمي بأعمدة شعرية أومشاعرية- إن جاز لنا القول..‏

صحيح أن الهيكل العام لهذا النتاج الأدبي يأتي تحت مسمى رواية إلا أن لغته تنزاح لتكون شعراً تحمل تكثيفاً عالياً من مخبوء مشاعر المرء.. إذ تتفجر اللغة لدى إسبر بمكنونات عواطف وأحاسيس إنسانية بحتة، مرهفة، شفافة.. ومهما جاهرت هذه اللغة بفظائع الحال وجرائم الإنسان غير المرئية وغيرالمباشرة، تبقى مع كل هذا أمينة لكونها مشغولة بعناية البوح والدفق الوجداني.. مخلصة لطبيعة كونها معجونة بأنات (الأنا) وصرخاتها غير المسموعة..‏

(أخبرني أبي عن رائحة الموت، وطعم دخان مسود.. أخبرني عن قصتنا، وماجرى.. ليمتلك أحد فينا جرأة سكين، ويمضي فوق جراح بقيت تروي صديدها حتى قرف الرواة.. أخبرني أبي أين كنا مرة، وتحت أي عرش للآلهة احتمينا؟ بمن استعنت أبي على عمرك المهدور، وتكتكات ثوانيك، وماقبل ومابعد.. كيف رسمت مرساة نجاتك..‏

هل أرعبك أبي فجور الحقيقة وصراخ المظلوم بوجه قهاره، فنعست حتى النوم، وغفوت حتى النسيان، ومتّ مني قبل أن تموت بزمن..؟!).‏

في (منازلها) تسرد إسبر حكاية أناس ماتوا معنوياً، قبل موتهم بيولوجياً. تقف الشخصية الأساسية، الراوي وسام بن يوسف الشاب المحامي سارداً قصة أحبته معه مع بعضهم أو قصته هو معهم، ناطقاً وجعه المضاعف الذي ينكشف عن طبقات من أوجاع أولئك الذين مروا وحركوا طبول الذاكرة، بكل شراهة لاواعية..‏

(بنفس) شاعري واضح يحكي قصته، تاريخه تاريخهم، على هيئة قصائد معبأة بشكل رواية أو رواية مقطعة شعراً، مقطعة قصائد ذات موضوع واحد رئيسي، يتفرع أحياناً إلى عناوين فرعية، إذ لكل قصيدته بنكهة لونه الخاص.. و(وسام) يعيد لملمتها من زاوية رؤيته الخاصة.‏

هكذا تنثر إسبر تفاصيل حكايتها، من خلال عيني بطلها، تجمع خيوط اللاوعي، تغزل منها عمق حالة وجدانية، ترميها دفقة واحدة في مساحات وعينا، محركة ماهو كامن تحته، فتتقاطع تلك الحالات، الأجواء، الظروف- المحيطة بالشخصيات- مع مقابلاتها في الحياة الواقعية..‏

بمعنى: بمقدار ماتزخر الرواية وتتشبع بطقوسها شديدة الخصوصية، تمتلك المقدرة على محاكاة وجع عام.. كما في نظرة (وسام) لما نطق عليه مسمى (القانون)..‏

(هو القانون مادرست! أحكام تحدد صلاحنا والفساد.. أحكام تنظم في قوانين، في قيود، مقدرة الطغاة على الظلم، تشرع للقسوة، تحدد كافرنا والملحد.. تعاقب، تجلد تنفي من لم يمتثل للفضيلة، من أتقن الفوضى وزرع أسئلة على الطريق.. تجلد العاصي..! من لم يمتثل لقوانين لم تقنعه. تحاكم الثائر على ثورته والمشاغب على صرخته.. هو القانون ما لجأت إليه جوزفين أخيراً.. هو القانون).‏

خصوصية تلك الشخصيات، خصوصية ظروفها، كما في حالة جوزفين خالة وسام لم تمنع اكتساب الموضوعة المطروقة بعداً عاماً.. وهنا تحديداً تقارب الروائية قضية زواج الأديان المختلفة، فجوزفين تتزوج شاباً من دين يغاير دينها، لتحيا بعدها متاهة القانون الذي يمنع توريثها أبناءها، فيما لو بقيت على ديانتها ذاتها..‏

وعلى غرار معاناة جوزفين يفشي قلم (إسبر) أسرار شخصياتها الأخرى (انطوانيت- يوسف) والدي وسام، شخصيات انقلبت على حبها تحت وطأة وجعها- حلمها الخاص فأدبرت الدنيا في وجهها.. هلك الجميع وتبعثروا، ولم يبقَ إلا (وسام) حاملاً ظلال هزائمهم.. يبوح لها سبيلاً للخلاص منها.. تنز الذاكرة وجعاً مراً.. وذاكرة وسام تشي لنا وتعرفنا ملامح شخصيات، لانكاد نسمع صوت أي منها بشكل منفرد.. كل مانخبر به عنها يأتي على لسانه..‏

تظهر الروائية مقدرة واضحة على بناء الشخصيات ووصفها نفسياً، معنوياً أكثر من كونه وصفاً محسوساً.. وفقاً لذات النبرة الشعرية تتفنن بإظهار عوالم شخوصها الجوانية، غير المرئية وهي ميزة الرواية على وجه العموم..‏

اللعب في المساحات المخبوءة بذوات الشخصيات قلب ذاك (الداخل) وجعله فضاءً كاملاً تتأرجح على إيقاعه الشخصيات بأزمنتها المختلفة لكن المتقاطعة بزمن واحد وهو زمن الراوي (وسام)، فحيناً تعود الرواية إلى زمن الجدة (ماريا).. وحيناً آخر تحاكي زمن الأبناء (أنطوانيت، جوزفين) وثالث هو زمن الأحفاد، تتشابك جميعها بلحظة واحدة هي ذات اللحظة التي يقرر فيها وسام سرد حكايته..‏

هناك انطباع يخلفه (المزاج الشعري) الذي اشتغلت عليه إسبر في روايتها هذه، مزاج طبع العمل بحالة نفسية واحدة، يوحي للمتلقي وكأنما الروائية كتبت عملها من ألفه إلى يائه، بجلسة واحدة مايمنح الموضوعة المطروقة متانة وسبكاً بكافة جزئياتها، وهو الأمر عينه الذي يجعل (منازل الغياب) تحلق على طريقتها الخاصة في عالم الأدب، ولو شذّ ذاك التحليق قليلاً عن فضاءات يمتلكها فن الرواية وحده..‏

ولو قصرت تلك (المنازل) عن خلق فضاءات ينشغل بخلقها فن الرواية تجاه (الآخر) فنبرة الصوت التي طبعت بها منازل (إسبر) تُحيلك لفضاءات (الداخل- الذات) أكثر من فضاءات (الخارج- الآخر).‏

الكتاب: منازل الغياب. - المؤلفة: عبير إسبر - لدمشق عاصمة الثقافة لعام 2008م‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية