دفعت البشر إلى التماهي مع وهم المعرفة المتاحة والجاهزة. فمنذ اللحظة التي أصبح فيها الإنسان أسيراً لخرافة أنه وبمجرد جلوسه أمام حاسب شخصي متصل بشبكة الإنترنت يتحول العالم بكل اتساعه في الزمان والمكان إلى مادة جاهزة بين أصابعه، دخل إلى ما أسماه أفلاطون بالكهف الوجودي الذي يقبع فيه هذا الإنسان مستسلماً إلى وهم أن ما يحتويه كهفه من صور ورسومات إنما هو العالم. هكذا كثرت الكهوف المشبعة بصور ورسومات نتخيل أنها هي العالم ولا شيء غيرها، وتحصنت كل ذات في كهفها ليصبح العالم شبكة كبيرة من الكهوف الصغيرة التي تتبادل الصور والبيانات والرسومات التوضيحية حول وجود يتفق الجميع على تسميته بالعالم.
ولكن هل يواجه الإنسان حقاً في شاشة حاسبه المتصل بالإنترنت إمكانية أو احتمال المعرفة الكاملة والمنجزة؟ هل وعينا المسبق بأن أصابعنا العابثة بالفأرة النهمة لحاسبنا الشخصي تتيح لنا امتلاك الكم الهائل مما أنتجته البشرية وتنتجه من معرفة؟! من المؤكد أن أي موقع من محركات البحث على الشبكة العنكبوتية يضع افتراضياً كل ما استطاعت الحضارة الإنسانية تحميله من تراثها وإنتاجها الثقافي والفكري والعلمي على الشبكة على شكل بيانات بين أيدينا، وهذا يبدو كافياً للوهلة الأولى لخلق ذلك الوهم بامتلاك المعرفة جاهزة ومنجزة ومتاحة بين أيدينا ويفتح أمامنا ذلك الكهف الافتراضي الذي نتوهم أننا قادرون على تعليق صور العالم كلها على جدرانه! ولكن هل هذا معرفة؟ لم يعد هذا السؤال في الدراسات المعاصرة سوى استدراك لتأكيد جواب واضح هو النفي، لأن ثنائية المعلومات والمعرفة أصبحت من المسلمات في هذا السياق. لم يعد توافر المعلومات أو استهلاكها شرطاً يؤدي بالضرورة إلى المعرفة، ورغم بداهة هذا القول إلا أنه أصبح ضرورة للإشارة إلى مفارقة كبرى في حياتنا المعاصرة. تتجلى هذه المفارقة في التناقض بين التزايد الكمي للمعلومات والبيانات من جهة وبين التناقص في قدرة الفرد على تحويلها إلى معرفة، ذلك أن الاستهلاك المفرط والعشوائي للمعلومات يؤدي كما أظهرت العديد من البحوث والدراسات التطبيقية إلى ما يشبه التخمة التي تعطل عملية استيعاب المعلومة وتحليلها بغية وضعها في سياق دال ينتج المعنى. وقد أشار العديد من الباحثين في هذا المجال إلى أن عملية التخمة تلك تؤدي إلى حالة اغتراب بين المستهلك والموضوع، بحيث تتحول كثافة المعلومات وعشوائيتها إلى ما يشبه الحاجز بين الإنسان وعالمه. إنه الإنسان الذي يلج الكهوف الجديدة لاهثاً وراء العالم دون أن يدري أنه كلما استسلم لوهم المعرفة المنجزة، ابتعد عما يبحث عنه؛ وكلما استغرق في إبحاره في محيطات المعلومات والبيانات دون بوصلة، إنما يضيع ويبتعد عن جزيرة كنزه المفقود.
إنها حالة نرجسية غير مسبوقة في تاريخ البشرية في حدتها وخطورتها. لم يسبق للإنسان في تاريخه أن اعتقد أنه يمتلك الحقيقة والمعرفة بهذا اليقين المرعب وذلك فقط لأنه يجلس أمام حاسب شخصي متصل بالإنترنت! إن هذا الوهم وهذه الخرافة التي كرستها الثقافة المعاصرة والتي تطابق بين المعلومات والمعرفة حولت البشر إلى كائنات نرجسية معزولة عن العالم في كهوف صغيرة يعتقد ساكنوها أن كلاً منهم يحتكر الحقيقة لمجرد قدرته على تعليق ما يشاء من صور على جدران كهفه، وكلما كثرت الصور ارتفع منسوب اليقين باحتكار الحقيقة وازدادت جاذبية ومصداقية خرافة الأنا العارفة والأنا المحقة والأنا المغايرة. ولم تكن هذه الحالة تطوراً بريئاً في الحقيقة، بل كانت نتيجة لعمل دؤوب ومنهجي من قبل قوى سياسية واقتصادية كونية كبرى استغلت الشروط الثقافية والتقنية الحديثة لإنتاج وتسويق خرافات العصر ومنظوماته الشمولية الجديدة.
لقد عملت هذه القوى على تصنيع الكهوف الجديدة لإنسان العصر عبر تكريس منظومة شرسة وشمولية من أنماط الحياة والاستهلاك، جعلت من الإنسان أسيراً لنرجسيته الجديدة وليوتوبيا فرديته الافتراضية على شبكات التواصل الاجتماعي التي ورطته في العزلة والاغتراب عن الواقع. هذا ما تسميه إليزابيث إرمارث بالشرط السردي للوجود the Discursive Condition. أي أن الحقيقة أو التاريخ هو مجرد سرديات وخطابات فردية حول الواقع. في هذا الشرط، كما تقول إرمارث: «عند مقاربة السير الفردية لحيوات عصية على الوصف، لم يعد هناك إمكانية للوعي الحداثي بوجود الزمن الحيادي والتاريخ الموضوعي حيث يمكن للزمن والماضي الجمعي المشترك أن يوجد. لم يعد بالإمكان ضمان الحيادية والموضوعية التي يمكن من خلالها وعي وقراءة زمن وماض مشترك، لم يعد ذلك ممكناً في عالم متعدد الأصوات والذوات الفاعلة» حيث تتضاءل إمكانيات الوجود المشترك والسردية المشتركة والتاريخ المتفق عليه أيضاً.
في هذا الفضاء المتشظي دخلت المجتمعات الفقيرة التي لم تنجز حداثتها بعد والتي لا تزال تصارع شروطها ما قبل الحداثية في صراع مفتوح وغير متكافئ مع قوى كونية عملاقة استثمرت فيها أكثر التطبيقات السياسية والاقتصادية عسفاً لثقافة ما بعد الحداثة التي أنتجتها المجتمعات ما بعد الصناعية بشكل طبعي يتناسب مع تطوراتها الاجتماعية والثقافية والسياسية. لقد كانت ثقافة الاستهلاك وصناعة الترفيه التي سوقت كبديل للثقافة في المجتمعات الفقيرة عموماً والعربية خصوصاً البوابة التي دخلت منها تلك القوى لفرض تطورات ثقافية قسرية وظفت فيها أدوات ومفاهيم ثقافة ما بعد الحداثة بشكل مسيس وهمجي أدى إلى نتائج كارثية ذات مظهر سوريالي في كثير من الأحيان. وجدت هذه العملية المعقدة تربة خصبة من الجهل والتجهيل في تلك المجتمعات وتواطأت مع النخب الثقافية والسياسية التي تورطت في اللعبة إما عن جهل وإما عن سوء نية.
وهكذا رأينا ونرى كيف يستخدم الإعلام على سبيل المثال كأدوات تجريبية لأحد أكثر تطبيقات مفاهيم ما بعد الحداثة خطورة، مفهوم زوال إمكانية وجود حقيقة أو واقع جمعي مشترك وحقيقة أن الإعلام هو الذي يصنع الواقع، لا العكس. وكان التجريب ناجحاً على نحو تراجيدي في تفتيت مجتمعاتنا وتحويلها إلى شظايا من الطوائف والقبائل والأقليات تحت شعار جذاب هو التعددية ونهوض الهوامش والخصوصيات المحلية والذاتية! كلها شعارات لها مصداقيتها في سياقها الأصلي لكن تطبيقها في مجتمعات لم تنجز بعد وحدتها وملامح كينونتها الوطنية أو القومية أو تجربتها الحداثية كان إجرامياً بشكل مقصود ومنهجي.
لقد كان اشتباكنا مع ثقافة العالم المعاصر تراجيدياً بشكل يدعو للرثاء، فاختلط لدينا الحابل بالنابل في كرنفالية فاقعة يتورط فيها الواقع ما قبل الحداثي وهشاشة المشروع الحداثي في معارك غير متكافئة مع شروط الثقافة الكونية المعاصرة التي لا نملك خيار تجنبها أو الانعزال عنها، ونحن في هذا الواقع محكومون بقدرية الاستهلاك وبنزعة نرجسية جارفة وحادة تكاد تفتك بنا ونحن نستسلم للكهوف الجديدة التي يبنيها الآخرون لنا. وها نحن، كلنا يعتقد أنه يمتلك الحقيقة والتاريخ والمعرفة بين أنامله لمجرد أنه يجلس إلى حاسب متصل بالإنترنت. وكلنا يعتقد أن ما يعلقه على جدران كهفه من صور هو حقيقة العالم! علينا أن نخرج من هذه الكهوف قبل فوات الأوان.