ولكن خماسي دمشق النحاسي كسر ذلك الرهان بتقديمه أول حفل له على مسرح الدراما في دار الأسد للثقافة قبل أيام وقدم من خلاله أجمل الألحان وأصعبها لينال إعجاب الحضور، الموسيقي قبل المستمع العادي.
هذا التجمع لآلات كنا نراها دائماً في الصفوف الأخيرة في الفرقة السيمفونية، وفي هذه الحفلة رأيناها وحيدة وفي منتصف الخشبة لتعطي ألحاناً شجية وغير معروفة، التوبا وهي أكبر آلات النفخ والترومبيت بأشكالها المختلفة، والهورن المخصص لجمل موسيقية داخل الأوركسترا، والترمبون التي لم نكن نراها إلا في الماراشات العسكرية.
إدريس مراد:تجمع لخيرة الموسيقيين
يتألف خماسي دمشق النحاسي من خيرة الموسيقيين السوريين ومن موسيقيين روس يعملون كخبراء في المعهد العالي للموسيقا، راني الياس وهو واحد من أبرز عازفي آلات النفخ النحاسية السوريين الذي قدمهم المعهد العالي للموسيقا خلال الأعوام العشرة السابقة، حيث تخرج منه عام 2003. عزف راني الياس مع العديد من الفرق الهامة على الساحة الموسيقية السورية والعالمية ويعتبر من أميز مدرسي آلة الترومبيت السوريين خاصة لجيل الشباب فهو مدرس في معهد صلحي الوادي للموسيقا ومعهد الشبيبة والمعهد الوطني للموسيقا في عمّان – الأردن ومدرب آلات النفخ النحاسية في فرقة الجيش العربي السوري.
دُلامة شهاب، عمل منذ تخرجه من المعهد العالي للموسيقى بجد للانفتاح على مختلف التجارب الموسيقية العالمية والبحث عن خصوصية في أدائه الموسيقي الآلي فكانت له محاولات جادة في تأسيس فرق موسيقية بأنماط جديدة على المشهد الموسيقي السوري ومن أهمها «تشيلي باند» وهي الفرقة السورية الأولى المختصة بأداء الموسيقا اللاتينية.
أيغور غالينسكي، ينحدر من عائلة غالينسكي الموسيقية وقد وصفته إحدى الصحف البيلاروسية كواحد من أهم عازفي الهورن في البلاد. حصل على درجة الماجستير من الأكاديمية الموسيقية البيلاروسية ليصبح عازفاً في العديد من الأوركسترات العالمية، حصل على الجائزة الكبرى لعازفي النحاس في لوكسمبورغ.
فلاديمير كراسنوف هو أحد الخبراء الموسيقيين من دولة روسيا الاتحادية الذين كان لهم الفضل بتأسيس قاعدة من الموسيقيين السوريين المحترفين على الآلات الموسيقية المختلفة من خلال تدريسهم في المعهد العالي للموسيقا بدمشق حيث يعمل فلاديمير بالتدريس في سوريا منذ عام 2001 بإختصاص «الترومبون والتوبا» بالإضافة لخبرته السابقة في التدريس بكلية الموسيقا - أوليانوفسك. ظهر فلاديمير كراسنوف كعازف ترومبون مع العديد من الفرق الموسيقية، حاز فلاديمير على العديد من الجوائز العالمية منفرداً أو بمشاركة مجموعات حجرة. كما شارك فلاديمير في لجان تحكيم لمسابقات عالمية في العديد من الدول.
شربل أصفهان، عمل على إظهار إمكانيات آلة التوبا وقدرتها على أداء أنماط موسيقية مختلفة من خلال مشاركته مع فرق موسيقية هامة فاعلة على المشهد الموسيقي السوري. منذ دراسته في المعهد العالي للموسيقا، شغل منصب عازف التوبا الرئيسي في العديد من الفرق منها السيمفونية الوطنية السورية.
يعد شربل واحداً من الفاعلين الثقافيين في الخريطة الثقافية السورية من خلال إدارته لمجموعة من المشاريع الفنية لجمعية صدى الثقافية الموسيقية منها مدير مشروع «موسيقى على الطريق» والمدير الفني لأوركسترا الجيش العربي السوري لمدة عامين، وعضو في مجلس أوركسترا الفرقة السيمفونية الوطنية لمدة أربع سنوات وهو مدير خماسي دمشق النحاسي الذي نحن بصدده.
برنامج منوع ممتع
هكذا وبكل أريحية وانسجام واضحين قدم خماسي دمشق النحاسي مجموعة من الأعمال الموسيقية الكلاسيكية، حيث بدأت الفرقة بمقطوعة «ابتهال» لهاندل، ومن ثم تتالت الأعمال فعزف «روندو لترومبيت» لكلارك، «كانون» لباخلبيلن «هاليلويا» من عمل «المسيح» لهاندل أيضاً، «روندو» لموريه، «بوق القيامة» من القداس الجنائزي و»افتتاحية الناي السحري» لموتزارت، «فانفار» من هكذا تكلم زرادشت لشتراوس، «صدى للغروب» لستيفانو، «وردة الزفاف» للافاليه، «مزمار جبرائيل» لموريكوبيه، «ست سويات من الترشيح» لعبجيان، «السلام عليك يا مريم» لرخمانينوف، «النمر الوردي» لأتش مانكيكي، وأنهت الفرقة أمسيتها بعمل للمؤلف الأرمني خاتشادوريان وهو «رقصة السيوف».
وتميزت شخصية هذا التجمع الفني بتشكيلة آلية متوازنة صوتياً إضافة إلى قدرته وطواعيته في عزف كل الأشكال الموسيقية ليكون هذا البرنامج خلاصة لمختلف الاتجاهات والعصور من الكلاسيكية إلى أنواع عديدة من الموسيقا «باروك، كلاسيك، رومانس» إلى جانب الجاز والموسيقى الشعبية.
وعموماً كـوّن خماسي دمشق النحاسي إحدى الظواهر النادرة في الحياة الثقافية الموسيقية في سورية والشرق الأوسط باعتباره من أوائل تشكيلات الآلات النحاسية التي تتطلب خصوصية وحرفية عالية على صعيد العزف والخبرة الموسيقية.
جذب المتلقي
قصدنا في هذه المقالة أن نلتقي بعض الموسيقيين الذين حضروا الحفل ليتحدثوا لنا عن أهمية هذه الفرقة بالنسبة إلى المشهد الموسيقي السوري، حيث قال المايسترو ميساك باغبودريان قائد الفرقة السيمفونية الوطنية: سأتحدث في البداية عن اختيار البرنامج، نحن تعودنا وللأسف الشديد أن معظم التشكيلات النفخية تحاول أن تكسب الجمهور ببرامج معروفة أو مسلية وتكون سهلة ومعروفة، ولكن المفاجئ في هذه الحفلة بأن معظم المقطوعات التي قدمت في الحفل رغم إنها الأولى لهذه التشكيلة كانت صعبة وجدية ومتقنة ومعقدة، فكان هناك اهتمام بالألوان وانسجام النوتات بين الآلات المختلفة، وبالتالي أنا أحترم هذا الشيء لأن ما قدموه هو احترام لهذا الجمهور الذي جاء إلى الحفل، في تقديمهم لقطع بمستوى عال وجاد وبعيد عن اللعب بعاطفة الناس، ولم تكن الرغبة بجذب الناس من خلال مقاطع محفوظة، تشكيلة النحاس بشكل عام وخاصة النفخ يراد لها وقت من ناحية التوحد في الدوزان، ومن هذه الناحية كان هناك عمل جيد في الوصول إلى دوزان مستقر للآلات وبالتالي الانسجام الواضح فيما بينهم، وهذا يتطلب جهدًا وعملاً طويلاً، وعموماً العمل على إخراج برنامج منوع على هذه الآلات أصعب من الآلات الأخرى.
مهمة مزدوجة
وبدوره قال الموسيقي حسام بريمو مؤسس وقائد جوقات «لونا»: أنا حضرت ولادة هذه التشكيلة، وكمتابع حضر هذه اللعبة، وواكبها لحظة بلحظة، وهذه المقدمة كي أقول بأن الرأي التالي هو ليس لمستمع عادي بل كموسيقي، هذا الخماسي صعب على مستمعنا حتى الآن حيث أنه لم يسمع هذه التشكيلة إلا من مارشات عسكرية وفرق الكشافة وموسيقا الجيش وغيرها، ومن يستمع إلى موسيقا من نوع آخر يصعب عليه الاستماع إلى هذا النوع، ولذلك هذا الخماسي النحاسي حامل على كاهله مشروعين الأول توصيل موسيقي بين الناس وهو هدف عظيم جداً، وآخر تحويل وجهة نظر الناس بأن الآلات النحاسية مرتبطة فقط بالموسيقا العسكرية، إلى تبني وجهة نظرة جديدة وهي بأن هذه الآلات قادرة على عزف أجمل أنواع الموسيقا بأرقى أشكالها، وهذه مهمة صعبة جداً بأن تجعل الآخر يتبنى وجهة نظر وبالتالي هذه التشكيلة أمام مشروع صعب، وما رأيناه في الحفلة كان واضحاً بأن التحضير لما قدموه يتطلب جهداً كبيراً وخاصة على هذا النوع من الآلات، والموسيقي الذي يعزف على هذه الآلات يبذل جهد سنوات وبالمقابل لا يحصل على مردود مادي، ولذلك أقول من يقدم هكذا معزوفات على هذه الآلات بدون مردود مادي يعني بأنه يعمل من كل قلبه، ويساهم بشكل أو آخر في رسم اللوحة الموسيقية السورية. واختيارهم لمقطوعات منوعة دليل ذكائهم، لأنك لا تستطيع أن ترضي جمهوراً متنوع المشارب إذا قدمت لوناً أو اثنين من أشكال الموسيقى على الأقل يتطلب إرضاؤهم خمسة أو ستة أنواع لكي لا يخرج أحد من الصالة في منتصف الحفل، وبهذا التنوع استطاع الخماسي أن يكون عند حسن ظن الكثيرين، أنا كموسيقي مسرور بهذه الخطوة وكسوري مسرور أكثر وأكثر وأتمنى أن يستمروا في مشروعهم رغم الصعوبات في هذه القصة وأتمنى لهم نجاحاً تلو أخر.
غير رشيقة ولكن لماعة
أما راني الياس وهو من أعضاء خماسي دمشق النحاسي قال: هذه التشكيلة موجودة في كل بقاع الأرض مثلها مثل الرباعي الوتري وموسيقا الحجرة والخماسي النفخي الخشبي هي تشكيلة موجودة ضمن موسيقا الحجرة، ومجموعة الخماسي النحاسي قادرة على أداء كل أنواع المدى الصوتي من الباص حتى السوبرانو، إضافة إلى كل أنواع الموسيقا، صحيح إنها آلات ليست رشيقة إلى هذا الحد ولكنها لماعة وتؤدي كل الأنماط الموسيقية، وفي الأساس عندما كنا طلاباً في المعهد العالي للموسيقا كانت هذا التشكيلة حلماً لأي عازف على آلة نفخية كي يعزف في خماسي نحاسي مثله مثل العازفين على الآلات الوترية، فالفكرة كانت موجودة دائماً وتشكل الخماسي النحاسي عام 2000 مع عازفين آخرين، فقط كان شربل أصفهان من التشكيلة الحالية موجوداً آنذاك، ومن ثم التحقت بالفرقة بعده بسنتين، وهذه أول حفلة لنا بهذا الشكل وباسم خماسي دمشق النحاسي، عادة كنا نقدم حفلاتنا ضمن موسيقا على الطريق، تدربنا كثيراً، واخترنا برنامجاً يناسب الوضع الذي تمر به سورية، وكان هدفنا بأن يكون البرنامج ذا طابع جاد، ولم نقدم رقصات أو أشياء من هذا القبيل، فقط موسيقا جادة لها علاقة بالثقافة وبعيدة نوعاً ما عن البهجة والفرح واستمرت التدريبات للتحضير أكثر من أربعة أشهر.
طريق جديد
ومن جهته قال دلامة شاهين وهو عضو الخماسي ذاته: خماسي دمشق النحاسي أحد أهم التجارب الموسيقية التي أواكبها حالياً، فمنذ تخرجي سنة 2006 اتجهت نحو البحث و التجريب بأنواع الموسيقا العالمية مبتعداً عن الموسيقا الكلاسيكية، وهنا كانت تجربتي مع أوركسترا الجاز السورية وفرقة تشيللي للموسيقا اللاتينية هي الأماكن التي وجدت نفسي كموسيقي ضمنها، رغم إني ابتعدت عن الموسيقا الكلاسيكية والأوركسترا السيمفونية التي لم أكن أعزف كعضو فيها إلا عند حاجتهم الماسة لعازف ترومبيت ثالث، اليوم عدت لهذا المسار عودة جيدة وليس من السهل على الموسيقي الذي عمل فترة طويلة بأنواع موسيقية بعيدة كل البعد عن الموسيقا الكلاسيكية العودة إلى هذا المضمار دون استعادة للياقة البدنية والعضلية والذهنية. هذا ما عملت عليه طوال الفترة الممتدة من شهر تشرين الثاني حتى هذه اللحظة، ولم تكن فترة التدريبات مع الخماسي الممتدة طوال أربعة أشهر إلا عاملاً قوياً لكل عازف في هذا الخماسي على العودة القوية للتمرن موسيقياً لأن تركيبة الخماسي النحاسي معقدة وصعبة والموسيقا المقدمة هي موسيقا جادة بالمجمل، فكان لابد من العمل على برنامج حرفي موسيقي ثقيل والبرنامج يتناسب مع المرحلة المعقدة التي تعيشها البلاد، وأريد أن أنوه بأن استمرارية هذا المشروع يضمنها استمرارية التمرين الذي عقدنا العزم عليه جميعاً كموسيقيين في هذا المشروع.
في الختام
يعمل خماسي دمشق النحاسي منذ تأسيسه بشكل مستمر وجاد على البحث عن هويته كخماسي نحاسي سوري، لذا قام بإعادة توزيع أعمال من التراث الموسيقي الغنائي العربي وتقديمها بشكل آلي صرف لكسب اهتمام الجمهور، وتسليط الضوء على القدرة الموسيقية الآلية، والبحث في المخزون الموسيقي بهدف تقديمه بصيغ جديدة معاصرة، ويراد له دعم جدي من المؤسسات المعنية وخاصة وزارة الثقافة لتستمر في طريقها ولتنشر الثقافة الموسيقية ذات الهوية السورية في العالم وهذه الرسالة في عهدة وزارة الثقافة ومدى دعمها لهذه الفرقة الفريدة من نوعها في المنطقة عموماً.