يعتقد البعض، وهو أمر شائع عند كثير من الناس، أن ثمة طقوس للإبداع، أو مجموعة متواليات تشكل مسيرته . ومع هذه الحقيقة المجردة من أي ملمس واقعي، فإن ما يذهب إليه هذا البعض هو في الواقع حقيقة مطلقة لا لبس فيها، ذلك أن عملية الإبداع، وإن لم تخضع للواقع بمفهومه المدرك، فإن الشعور بها أمر لا لبس فيه، وهي أقرب إلينا مما نتوقع.
مما أعرفه في هذا الحال، ما رواه لي كاتب سوري كبير أن كثيراً من قصصه كتب مسوداتها الخام في الحافلة وهو في طريقه من محل إقامته إلى العاصمة ، وأن القلم والورق الذي لا يفارقانه أبداً، هما المسعفين في وضع ما تجود به موهبته الفذة التي طالما أكدت حضورها على مدى خمسين عاماً مضت.
في المقابل، نجد بعض الكتّاب يتعاملون مع الإبداع على أنه شأن عملي يخضع لآلية واقعية يومية تنأى عن الفانتازيا التي قد يدعيها البعض، ومن ذلك على سبيل المثال، الكاتب العالمي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز، صاحب رواية «مائة عام من العزلة» الذي يمارس عملية الكتابة في أوقات محددة، حتى ليبدو الأمر وكأنه عمل وظيفي، وهذا عائد باعتقادي إلى كون الكتابة الروائية تحتاج إلى المثابرة والقدرة على ممارسة العمل لساعات طوال، وهو أمر يفتقده معظم المبدعين، وقد يكون سر نجاح الكثيرين، لاسيما إذا علمنا أن المثابرة في العمل سر من أسرار الإبداع، وتشكل نسبة بالغة من النجاح.
مقابل ذلك، يخضع الإنسان المبدع في كثير من الأحيان لأمرين أساسيين، أولهما طبيعته الشخصية، كالهدوء ووضوح الهدف والقدرة على الصبر، وثانيهما ظروفه الاقتصادية،أي قدرته المادية على تأمين حياة طبيعية، تساعده على خلق ظرف موضوعي، يجعله في مأمن من التفاصيل اليومية البسيطة التي تأخذ من وقته وصفاء ذهنه.
من جانب آخر، يعيش المبدع، شأنه شأن الآخرين، صراعات مختلفة على جبهات متعددة، فالشأن السياسي على سبيل المثال، يشكل الحيز الأكبر من اهتمامه، سواء على الصعيد الوطني أو العالمي. ومن الأهمية بمكان ههنا القول، إننا في البلدان العربية، من سوء حظ المبدع وربما من حسن حظه، نعيش تحولات جذرية وعظيمة، كأن يُعاد تشكيل المجتمعات من جديد وفق رؤى ودوافع اجتماعية يفرضها التاريخ وتحتمها الجغرافيا ويساعد على ولادتها واقع أوطان لم تتشكل معالمها الحقيقية بعد، حتى لتبدو للمتابع والمدقق، وكأنها ما تزال أجنة تسعى لأن تشق طريقها نحو ولادة طبيعية، رغم العسف الذي يسعى إلى عرقلة حلمها ورغبتها في الخلاص.
قد يكون المبدع محكوماً بنفسه وبواقعه فقط، وكلاهما باعتقادي أخف الشرور التي من الممكن أن يتعرض لها.. لكن ما خفيّ منها – قد يكون أيضاً- أعظم من هذه الشرور وأكثرها بلاء، ويصبح ما حولنا من بلاد وعباد في مهب الريح.
ghazialali@yahoo.com