مثل شلال من امطار الشتاء القارس انسكبت كلماته حين اجتاحت عيناه كائناً بشرياً يكاد يعبر نحو الضفة الأخرى..
تأمّل هذا العبور الشاحب واتجه نحوها, بعد قليل من تدليسٍ لامعنى له, انسكب لغوه, أقسم لها إنّ عينيها أروع من حدائق بابل, بل أين حدائق وجنائن بابل منهما..? أما الضفائر فهي قطعة من ليل امرىء القيس وأردف يقول: يداك كأنهما قُدّا من مرمر, وشفتاك من ورق الآس وأين من صوتك مغنية بشار بن برد.. أين من فصاحتك سحبان بن وائل, بل أنتِ إذا افاض جمالك من هام من أجلها ابن زريق البغدادي, وعدكِ كماء النهر مصبه الحتمي البحر المنتظر مهما طال المسير...استمرت معلقته زمناً لايستطيع تقديره وحين أغفت على سندس كلماته وأراجيح أوهامه, كانت عيناه تغزلان خيوط الرجعة عند أول مفترق صدامي كلماته التي استجمعها من كل زواريب المحبين بدت وكأنها خارجة للتو من أتون الفرن العالي ولم يكن يدور في خلدها أنها ستكون بعد ساعات وربما في أحسن تقدير بعد يوم ستكون مثل صقيع المتجمد الشمالي..
>فراق تفكيكي..
لم يطل الولِهُ البنيوي أكثر من يوم, فاليدان ليستا إلا يباساً من خشب بل تكادان أن تكونا حجرا صلداً.. أما الشعر فليس إلاّ خيوط بلاستيك أعيد صهرها وأما عيناها فهما عينا ميدوزا, وشفتاها أخذتهما من بقايا دراكولا.. أما وعودها فهي بريق خلّبي مخاتل مخادع, بل هي في أحسن أحوالها جميلة كوعود المسؤولين حين يطلقونها رنانة مدوية فإذا بها بعد ايام باردة سقيمة ,عليلة, لاتكاد تحيا حتى يجف حبرها, بل ربما كانت نسخة مكرورة عن هؤلاء الذين يتاجرون بأحلامنا,بآمالنا,ويمطرون علينا بالوعود المعسولة, فإذا بهم ووعودهم لهذه الحسناء, حين أماطت اللثام عن جمالها, فبدت ملامح الزيف وزالت مساحيق الجمال وذاب الثلج وبان المرج..,ماكادت معلقتاه (الولَهُ البنيوي والفراق التفكيكي) تنتهيان حتى أقسم لها ثانية إنه كان يطبق آخر نظريات النقد الادبي على جمال عابر في زمانٍ عابر على وعود عابرة على أشباه عابرين لايدرون أنهم في أحسن الاحوال يحلقون بلا أجنحة..
>حبرٌ على ورق..
منذ عشرين عاماً, وربما اكثر وأنا أتابع مايكتب في الصحف, وما يبث في الاذاعة والتلفاز من هموم وقضايا المواطنين هكذا بادره- صديقه الذي لم يره منذ سنوات- ولكني لم أرَ شيئاً قد تغير, فالحبر جفّ والصوت صار صدىً, والصورة نسج العنكبوت خيوطه حولها,والكل في فلك الانتظار والملل يدورون.. هل تستطيع ياصديقي أن تقول لي: لماذا كلماتكم بلا أثر.. لماذا أصواتكم صدىً في وادٍ سحيق.. لماذا ... لماذا اندفع سيل الأسئلة الاتهامية وكأنّ مافي الجعبة لايكاد ينتهي ربما حمل صديقي في جعبته مياه المحيطات وحولها إلى اسئلة, ولكن اية أسئلة هي اسئلة من يبادر الى اتهامك قبل أن يجد جرماً يرميك به أو ترميه به, قد يكون السائل محقاً لو كان خارج دائرة الاتهام والريبة, قد يكون حريصاً لو كان يفتح نافذة للأمل من خلال التحفيز والترغيب, لكن لاهذا ولاذاك, إنها الدوامة ذاتها والآراء ذاتها كلام في النهار وملل في الليل...
أمّا لصديقي الذي رآنا كلماتٍ تيبست وصوراً صدئة وأنغاماً ربما كانت جنائزية على حدّ تعبيره لهذا الصديق.. بكلمات قد لاتفي بالمقام ولكنها تخرج من رحم أسئلتك..صورنا, كلماتنا, ستبقى تظهر بألف شكلٍ ولونٍ وستبقى كابوساً يؤرق وإن شبّت التماسيح وتماسك جلدها.. لاشيء يتغير, يتبدّل كما ترى لأنّ بعض الذين تخاطبهم كلماتنا وترصدهم صورنا هم الصورة المعنية لم يتبدلوا ولم يتحولوا, يركبون الموجة,يقفزون من مركب لاخر, تراهم هنا وهناك ينظرون, يبدعون في عالم الأوهام, ينتظرون الغد ليروا الموجة القادمة وليكونوا أساتذتها.. لهؤلاء الذين لم يهرموا وإن هرم الزمن ولم يتهرأ الصدأ عن عقولهم وان تهرأت أجسادهم,ربما نهمس قائلين: آن ان تؤمنوا ان لكلّ جديد لذة غير أني رأيت جديد الموت ليس بلذيذ.. خذوا لذة الجديد الاول وأطال الله في أعماركم.
هي كلمات في مهب السمع وربما في مهبّ الصمم وتبقى حبراً على ورق.