للجنة فولكر بخصوص فضيحة النفط مقابل الغذاء حيث أشار إلى أن التقارير التي تتحدث عن الفساد والهدر وعدم الكفاءة ومن ضمنها الأمم المتحدة نفسها تبين أن أغلبها كان صحيحا, كما أن المسؤولية والكفاءة والصدق كانت مفقودة في أغلب الأوقات فقد قدم الأمين العام للأمم المتحدة - كوفي عنان - الاعتذارات ثم أكد بعدها على أن موجودات التحقيق تعزز أهمية الاصلاحات الادارية المقترحة التي يتم مناقشة الكثير منها في الوقت الراهن بين الدول الاعضاء في الجمعية العامة.
وناقشت الدول الأعضاء هذه التغييرات ومن ضمنها الولايات المتحدة الأميركية رغم أنها العضو الأكثر انتقادا لسجل الأمم المتحدة ولأمينها العام - عنان - لكنها مع ذلك عملت جنبا إلى جنب معه بهدف البحث عن آليات واجراءات جديدة لمداواة العيوب في جسم المنظمة.
لكن هل ستساعد اي من هذه التغييرات في ارساء الاصلاح?
هل يمكن حقيقة اصلاح الأمم المتحدة بوساطة ( اصلاحات ادارية شاملة) كما أوصت بذلك لجنة فولكر? أم أن القضية أكبر من ذلك في العمق?
مهما كانت التغيرات التي قد تحدث ستكون بمثابة اللمسات الأخيرة في مسيرة غير نهائية وفي هذا الاطار كتب الخبير الأكاديمي المعروف بأمور الأمم المتحدة السيد - ادوارد لوك - عن الطبيعة المألوفة والمشاعة عن الأمم المتحدة واصلاحاتها حيث أشار أنه في عام 1945 وحتى قبل أن تعقد الأمم المتحدة أول اجتماع لها, كانت هناك العديد من البلدان تطالب باصلاح الأمم المتحدة وتبنى جميع الأمناء العامين السابقين موضوع الاصلاح في الأمم المتحدة, لكن لم يكن واحد منهم اكثر جدية ومثابرة من الأمين العام الحالي - عنان- الذي عمل وقبل تأديته ليمين القسم عند استلامه على تعيين نائب عام كمنظم لعملية اصلاح الأمم المتحدة وهو - موريس سترونج - الكندي الأصل ولكن لسوء الحظ اضطر سترونج للتنحي عن منصبه اثناء تحقيقات فولكر بعدما تبين أنه وظف اخت زوجته في الأمم المتحدة وبأن له علاقات تجارية مع تونغستون بارك التاجر المشهور وصاحب النفوذ الذي اتهم باستلامه ملايين الدولارات من النظام العراقي السابق واخفاقه في التسجيل كعميل اجنبي بحسب متطلبات القانون.
وحتى لا يخاف احد بأن رحيل سترونج قد ينجم عنه توقف مساعي الاصلاح صرح عنان بأن المهمة قد تم نقلها إلى وكيله الأمين العام - لويس فريشت - وهذه ايضا اكتشف لها خطأ من قبل لجنة فولكر التي انتقدتها بعلمها عن تجاوزات لمشروع النفط مقابل الغذاء, لكنها اخفقت في ادخال اي اشارة لهذه المخالفات في التقارير الكثيرة التي بعثت بها إلى مجلس الأمن ونجم عن مهرجانات العروض الاصلاحية بروز مكتب خدمات الاشراف الداخلي في عام 1994 الذي شكل تتويجا لمساعي الولايات المتحدة في وضع عائق امام قضية فساد الأمم المتحدة, وقد اضطرت واشنطن بغية ضمان انشاء مثل هذا المكتب إلى كثير من الاذرع وانفاق جهد كبير على الجانب السياسي, ووفقا لرسالة مكتب الخدمات فقد كان هدفه هو إنشاء إدارة مسؤولة عن الموارد وتقانة المحاسبة والشفافية, وبما ان انشاء هذا المكتب سبق برنامج النفط مقابل الغذاء بفترة سنتين فقد استغرب الكثيرون متسائلين بعد انكشاف الفضيحة حول أسباب عدم التدقيق فيه من قبل مكتب خدمات الاشراف الداخلي, اذن ما هو الشيء المنطقي الذي يفترض ان الخوض في تجربة اخرى من الاصلاحات في الأمم المتحدة ستكون اكثير فعالية من جميع المحاولات التي سبقتها?
والسؤال المطروح ايضا هو لماذا الأمم المتحدة عصية جدا على الاصلاح المجدي?
لعل أحد الأسباب هو بيروقراطيتها القوية المؤلفة من ثمانية عشر ألف موظف يديرونها على شاكلة نظام الباروك اي قانون الاستيعاب الجماعي الذي يقوم على أن الموظفين يتم توظيفهم وفقا للمنطقة والجنسية وليس بناء على الكفاءة.
ولمعالجة ما اطلق عليه مستشاروه قسطلة - الخشب الميت - تضمنت مجموعة الاصلاحات التي طرحها كوفي عنان بندا يطالب فيه مشاركة ( لمرة واحدة) للمسؤولين يفسح المجال لتجديد الكادر الوظيفي, لكن ما لم تصبح الكفاءة هي الأساس في التوظيف فإن الخشب الميت الجديد سيحل محل الخشب القديم.
ثمة سبب آخر أعمق من سبب عدم امكانية اصلاح الأمم المتحدة وهو انها اتحاد لمجموعة حكومات غير مطلوب منها الاستجابة لمطالب مواطنيها.
الأمم المتحدة لا تزال تسير كناد وبما ان الدول الديمقراطية توجد فيها مشجعات قوية تدفع بالسياسيين لابراز اخفاقات واساءات كل واحد منهم عن الآخر, فإن جميع المشجعات في الأمم المتحدة هي أن تغطي كل حكومة عيب الحكومات الاخرى, فمثلا يذكر تقرير لجنة فولكر ان الاشاعات المتعلقة بإساءة التصرف بخصوص برنامج النفط مقابل الغذاء كانت تنتشر في اروقة الأمم المتحدة والمؤسف حقا أن هذه الاشاعات كانت اسوأ من الحقيقة المخزية, لكن لم تكن في صالح اي من الحكومات التبليغ عنها وحتى الولايات المتحدة اخفقت في ذلك ايضا لان كل همها في ذلك الوقت كان منع صدام حسين من استعمال البرنامج لاستيراد اسلحة لذلك شعرت بأن عليها ان تحتفظ بهدوئها لمحاربة شيء أكبر من فساد ليس بذاك الأهمية.
ربما كان المسؤولون الأميركيون كارهين لتوريط حلفاء بلادهم والمستفيدين من تهريب النفط ومع هذا فإن سوء التصرف هذا يمكن اعتباره ثمنا يتحمله المرء فيما لو كانت الأمم المتحدة تقوم برسالتها, لكن صفقات النفط غير الشرعية هذه انما كانت للاسف انعكاسا لفساد اعمق ألا وهو استهزاء الأمم المتحدة من الاهداف التي انشئت المنظمة من اجلها والتي يأتي في مقدمتها الحفاظ على السلام.
لقد انشئت الأمم المتحدة بحسب المخطط لها كي تقود قوى قادرة على الاطاحة بالمعتدين, وعمليا فإن هذه التركيبة لم تبلغ حيز الوجود اطلاقا.
وبعد ان أصبحت الحروب داخل الدول اكثر شيوعا من الحروب بين الدول نفسها, يبدو أن الأمم المتحدة ربما تجد لها دورا في ذلك, لكن تصرفاتها في كل من رواندا والبوسنة والصومال كانت بائسة جدا لدرجة أنها اوصلت كوفي عنان إلى الاستنتاج بأن المحافظين على السلام يجب ان لا يتم ارسالهم ابدا إلى أي بيئة لا توقع فيها معاهدة وقف لاطلاق النار او سلام وعلى الرغم من فقدان الأمم المتحدة للقوة العسكرية فقد لعبت دورا كمنارة اخلاقية, لكنها فقدت سمعتها الاخلاقية منذ فترة طويلة بسبب سجلها تجاه حقوق الانسان هذا الذي كان واحدا من اهداف تأسيسها.
ثمة انفصام مخادع ايضا غالبا ما يتم رسمه ما بين - امم متحدة - وما بين تبني - احادية الجانب - وهذه المسألة عكست تخوف الرئيس الأميركي السابق روزفلت من إنه اذا لم تبادر اميركا في انشاء الأمم المتحدة فقد ترتد الولايات المتحدة إلى مرحلة العزلة المدمرة التي عاشتها في العشرينيات والثلاثينيات اما حليفه تشرشل فقد وضع اهمية اكبر على التحالفات والمنظمات الاقليمية لكنه كان مؤمنا في الوقت نفسه بأن الأمم المتحدة هي الوسيلة الوحيدة التي تستطيع ان تبقي الولايات المتحدة ضمن اللعبة ومن بين جميع المفكرين في تلك الفترة كان ولتر ليبمان وهو الوحيد الذي اشار إلى أنه من الممكن أن تكون لديه سياسة خارجية دولية دون الحاجة لمنظمة دولية.
هذه القضية تبقى صحيحة حتى الوقت الراهن حيث لا يمكن للولايات المتحدة ان تلغي او تطرد او تتخلى عن الأمم المتحدة لكن باستطاعتها ان تركز دعمها للوكالات الانسانية القيمة التابعة للأمم المتحدة وتدع الجانب السياسي الطامح لتشكيل حكومة عالمية يذبل.
كما انه باستطاعتها العمل على انشاء وتقوية الاتحادات والتحالفات والهيئات الاقليمية والتعاون بين الديمقراطيات, اذ عبر هذه الآليات يمكن صياغة سياسة خارجية دولية ومتعددة الاطراق التي يمكن ان تخدم الاهداف النبيلة الواردة في ميثاق الأمم المتحدة بشكل أفضل مما فعلته الأمم المتحدة في الستين سنة منصرمة.