ولماذا لم تستطع الآلة المتطورة تقنيا وفنيا للجيش الأميركي بمختلف صنوفه من القضاء على حركة المقاومة الوطنية, والتيارات والجماعات الارهابية التي تضيع حدود التباين بين هوياتها, في ظل حالة الفوضى الأمنية وحالة اللااستقرار على امتداد الساحة العراقية, بمختلف مناطقها, وبغض النظر عما تحاول الإدارة الأميركية من الإيحاء به بوجود تناقضات مذهبية وطائفية وعقائدية.
وتتزايد أهمية هذا التساؤل أمام الحقائق والوقائع على تلك الساحة, وما تقوم به الإدارة الأميركية من رفع دائم لمخصصات الدفاع, والمطالبة المستمرة بزيادة الموازنة الحربية نظرا لزيادة الأعباء التي تواجهها قواتها المتواجدة في العراق.
وتخصص الإدارة الأميركية أكثر من 400 مليار دولار سنويا للانفاق على الدفاع, وهو ما يشكل قرابة 4.5% من الناتج المحلي الاجمالي للولايات المتحدة.
وتأتي الولايات المتحدة في مقدمة دول العالم في مجال الانفاق العسكري العالمي, إذ تبلغ حصتها قرابة 43% في حين لا تنفق الدول العشر التي تليها أكثر من 35% من مجموع الانفاق على التسلح في العالم.
وهنا يبرز معنى السؤال (اللغز) فلماذا لا تستطيع قوة اقتصادية وعسكرية كالولايات المتحدة السيطرة على الأوضاع الأمنية في بلد كالعراق تم تدميره وتسريح جيشه النظامي?
الواضح أن الإجابة تحتمل كثيرا من التحليل بحيث تنتفي بداية امكانية اللجوء الى المقارنة بين الامكانيات العسكرية والاقتصادية لكلا البلدين كما تنتفي امكانية الإقرار بالقدرة على السيطرة تبعا للعدد والعديد النظامي لقوى الطرفين.
وفوق هذا وذاك تضيع امكانية المقارنة ما بين قوة عظمى تسيطر على 30% من الناتج الاقتصادي العالمي, وبين بلد مدمر, يتم نهب ثرواته وسرقة نفطه وضياع عائداته, ولا ينعم الشعب العراقي بتلك الخيرات التي لا تشكل في مجملها أكثر من خمسة بالألف من الناتج العالمي, الأمر الذي يوضح حجم المواجهة الاقتصادية والعسكرية بين الطرفين ويعكس حجم الفشل الذي تواجهه الولايات المتحدة للسيطرة على المقاومة وضبط الحالة الأمنية وإنهاء حالات التمرد التي تبرز باستمرار ممتدة من البصرة في الجنوب الى الأنبار في الغرب وصولا الى الموصل وصلاح الدين في الشمال والشرق.
وفي المحاولة لمقاربة الواقع العراقي وتقديم تفسير منطقي له فإنه لا بد من الاعتراف بوجود حالة ضبابية تلف حالة المواجهة ما بين الأميركيين من جهة والمسلحين كافة من جهة ثانية, وهنا تصر الولايات المتحدة على وصف المسلحين بالمطلق بأنهم مجموعة من الارهابيين الذين يتم تحريكهم بعناصر متسللة من الخارج وبخاصة من سورية.
وعلى الرغم من هذا التلفيق فإن القوات الأميركية وأجهزتها الاستخباراتية عجزت خلال قرابة ثلاثة أعوام عن تقديم دليل عملي ملموس يثبت هذا الزعم.
ولا تعترف الإدارة الأميركية بوجود مقاومة وطنية ترفض الاحتلال وتطالب برحيله, وهو أمر يدعو للاستغراب بوصفه حالة من التغاضي عن أبسط المسلمات في حالات الاحتلال.
فمما لا شك فيه وجود جماعات وطنية مقاتلة ومقاومة تركز عملياتها في مواجهة قوات الاحتلال, ومراكزه العسكرية وقد نفذت عمليات مهمة تشير الى أن تنفيذ تلك العمليات إنما تم من خلال تدريب منظم لا يمكن لجماعات بسيطة القيام به.
ومن المؤكد أن المقاومة الوطنية وعناصرها جميعا لا يمكن أن ترتضي عمليات الذبح ومهاجمة دور العبادة الاسلامية والمسيحية والتفجيرات التي تستهدف السكان الآمنين.
وهنا يبدو الخلط ما بين عمليات ارهابية تحركها أياد خفية, وتنفذها جماعات تكفيرية وما بين عمليات مقاومة وطنية تستهدف قوات الاحتلال.
ولا يمكن لعاقل أن يقبل بأن الجهة التي توجه سلاحها ضد الأميركي المحتل هي ذاتها التي توجه سلاحها ضد العراقي ابن جلدتها.
ومن غير المعقول أن الإدارة الأميركية لا تدرك هذه الحقيقة لكنها تتغاضى عنها وتتجاهلها تهربا من الاستحقاق التاريخي الحتمي, (الانسحاب) وهي تحاول تأخيره ما استطاعت الى ذلك سبيلا..ولكن هل تستمر هذه اللعبة طويلا.
من غير المعتقد أبدا, إذ إن جميع العمليات المشبوهة التي استهدفت المدنيين في المساجد والكنائس ودور العبادة والمطاعم والمخابز لم تستطع أن تزرع بذور الفتنة الطائفية بين العراقيين, فهم يتداخلون في أنسابهم ويرتبطون بعلاقات قربى لا تقوى الفتنة الطائفية على قهرها وتعكس ردود الأفعال لدى المواطنين العراقيين حالة الوعي الشعبي لما يراد للعراق من محاولات تقسيم وتفتيت تعتمد العوامل الطائفية والانقسامات المذهبية كأساس لذلك التقسيم.
وتركز الإدارة الأميركية على إبراز عناصر الخلاف والاختلاف ما بين الطوائف والأعراق في العراق في محاولة لتحقيق هدف التقسيم وتجد استجابة لدى بعض الساسة غير المنتمين الى الأرض العراقية, لكن تلك المحاولات تلقى مواجهة شعبية واسعة تعكسها الصلوات المشتركة في المساجد والكنائس لأبناء العراق الرافضين لتقسيمه, وفصله عن محيطه العربي.
وأمام هذه الحقائق تبدو ملامح الإجابة على التساؤل المثير في عدم قدرة قوة عظمى على فرض سيطرتها على هذا البلد المحتل, فاللحمة الوطنية ما زالت أقوى العوامل التي تجمع العراقيين على الرغم من حالات القتل والذبح الطارئة, فهي لا تمثل العراق, ولا تعكس ثقافته, ويدرك العراقيون وغيرهم أنها حدث خارجي طارىء لا يمكن تبرئة الأطراف الساعية وراء تقسيم العراق من المسؤولية عنها.
فهل ثمة تحليلات غير ذلك..?