إننا نعيش في زمن غريب الأطوار, وهذا ما حدث بالفعل من فترة وجيزة .ويناقش السيد هوارد في مقال حار موجه لصحيفة الديلي تلغراف مسألة ودعم سيادة البرلمان في وقت يواجه فيه المجتمع البريطاني ظواهر إرهابية خطيرة تهدد أمنه واستقراره. كما يحث على ضرورة حجب القضاة عن ممارسة حريتهم الممنوحة لهم من قبل منظمة الحقوق الإنسانية لتقيم فيما إذا كانت القوانين متناسبة مع أهدافها. ويذكر هوارد أن إساءة استعمال القضاة للسلطة المخولين بها أمر غير لائق - كما حدث على سبيل المثال في تسلطهم على وزير الداخلية بشأن قضايا الاعتقال.
ويقول إنه قد حان الوقت لتتخلى هيئة القضاة عن مواقفها ونسمح أن يسود حكم السلطة التنفيذية المنتخبة.
إنها أساليب ومناورات سياسية جديرة بالملاحظة, ففي العهد الحديث يتذمر حزب المحافظين بشدة من خضوع بريطانيا (لحكومة استبدادية اختيارية ).
إنها المعارضة التي تستشيط غضباً في وجه عجزها عن كبح جماح حكومة ديكتاتورية يتزعمها توني بلير. وميشيل هوارد هو من يؤكد بصراحة على توق الحكومة لاتباع أشد أساليب القسوة بحق أعدائها.
والذي يختلف في هذا الوقت برأي السيد هوارد, هو المراهنة على مسألة الأمن القومي, فبعد ما شهدناه من أحداث تموز يعتقد أن الحكومة تستحق التأييد المبدئي للإجراءات التي تتخذها بشأن مقاومة الإرهاب والتي أعلنت عنها الأسبوع الماضي.
كما أنه متخوف من السلطة القضائية العليا التي ستبحث عن السبل الكفيلة لمقاومة رغبة المجلس النيابي, وذلك بوضعها هذه العقبات في طريقه.
ورغم هذا هنالك الكثير من الناس سيصابون بالهلع من جراء الهجوم الكتابي الساحق الذي يدلي به السيد هوارد. وهنالك العديد من القضايا الحسنة التي تتعلق باقتراحات الحكومة, لكن التاريخ يثبت أن جميع القوانين الصادرة على عجل غالباً ما تكون ناقصة وفي بعض الأحيان مليئة بالأخطاء كما حدث في قرارات جورج بوش عقب أحداث 11 أيلول في الولايات المتحدة, ومهما كان شكل الخطوات التي يتخذها المجتمع للدفاع عن نفسه يجب أن تكون تلك الخطوات خاضعة لمراجعة مستفيضة من قبل البرلمان.
وتعاني الديمقراطية في بريطانيا من سقم شديد وتدهور بالغ الحدة كما أن تأثير السلطة التنفيذية لأعضاء الأحزاب السياسية ضعيف جداً, وسلطة القادة المحليين تعاني كذلك من الضعف وتمثل السلطة القضائية اليوم القوة الوحيدة والأساسية لضبط حماقات الحكومة المفرطة.
لدينا أسبابنا لنحسد الولايات المتحدة حيث يفرض الكونغرس الجمهوري سلطته القوية على الرئيس الجمهوري بالإضافة إلى سلطة المحكمة العليا وحقوق الولايات المتحدة. ولا يوجد تقريباً قائد وطني ممتلك سلطة مركزية كتلك التي يتمتع بها توني بلير, في أي مكان من العالم الغربي.
وكلما زادت الحكومة البريطانية في فرض سلطتها على المواطن كلما أصبحت الحاجة ملحة أكثر لمراقبة تلك الوسائل التي تستخدمها لممارسة سلطتها . وفي ظل نظامنا الديمقراطي البطيء لا يمكن سوى للقضاة أن يزودونا بسلطة تقمع القرارات الحمقاء.
وهنا يبدو الأمر غريباً إن لم يكن مخالفاً للمنطق تماماً بأن يطلب هوارد من القضاة عدم استعمالهم السلطة التي يمتلكونها في ظل مهمة أداء الحقوق الإنسانية. يعتقد البعض بأن قوانين الحقوق الإنسانية غير نهائية ومن السهولة بمكان الإساءة إلى المهمة الشرعية.
ومؤتمر الحقوق الإنسانية الأوروبية هو وثيقة متحيزة بشكل استثنائي حيث يلقي بواجبات ضخمة على كاهل الدول الموقعة بينما لا يفرض أي شروط تبادلية على المستفيدين منها .
ويبدو أن زعيم حزب المحافظين يريد من القضاة ألا ينظروا بعين العطف إلى أولئك الذين يطالبون بحقهم باللجوء السياسي. وأن يعترضوا على أساليب الاعتقال من دون محاكمة قانونية, وأن يتفادوا وضع عراقيل بحجة القانون في طريق الشرطة والتي تقف حائلاً دون تحقيق مطامح ورغبات وكالات الاستخبارات. ومع ذلك لن يكون بوسع القضاة إلا الرضوخ لرغباتهم والاعتراف بتحقيق نصر مفجع على الإرهابيين وإزاء تهديد مقصور على أقلية قليلة من المتعصبين المعتقلين سوف تنصرف بريطانيا عن تطبيق مبادىء الشرعية الدولية وسيادة القانون.
في الواقع يحتاج قمع الإرهاب الفعال والنشيط في هذا البلد إلى سن قوانين جديدة وضرورة أساسية لإحداث تغيير في التوازن بين الحقوق المدنية وحماية العامة وسيكون الأمر غاية في الدهشة إذا لم يظهر القضاة حساسية تجاه تغيير كهذا . لكن عندما تزداد سلطة الحكومة وخاصة عندما يقوى نفوذها وتتجرأ على سلطة القضاة وتقوم بأعمال الاعتقال دون محاكمات قانونية- عندئذ يتزايد المشككون ويأتي دور المحاكم في التدقيق والتمحيص بالأخطاء الفادحة . وهنا تبدو الأسباب أكثر عملية بالإضافة إلى أنها ذات مبدأ للسيطرة بإحكام على القانون. فقد دفعت أمريكا ثمناً باهظاً حسب الرأي الدولي بعد نشاطاتها المفرطة في مكافحة ما تسميه الإرهاب منذ أحداث 11 أيلول. معتقلات غوانتانامو والمحاكم التي لاتراعي فيها العدالة وعمليات الاختطاف للمشبوهين التي تقوم بها وكالات الاستخبارات CIA كل هذا قد كلف أمريكا ثمناً باهظاً من الناحية السياسية أكثر بكثير مما حققته من الناحية العملية. ليس المقصود بكل هذا أن نضع قضية للحكومة البريطانية كي تستجيب بضعف تجاه التهديدات الإرهابية ولكن المنافسة ضرورية حتى تكون القوانين المفروضة مقنعة والإجراءات الأمنية الجديدة أكثر منطقية بدلاً من أن تنعكس سلبياً على نفسها.
ويبدو الأمر صعباً جداً في هذه الحالة المزاجية التي تكلف الثمن الكبير سواء في ويستمنستر أو مابين العامة.
وقد قدم أيضاً في نهاية الأسبوع الماضي حول تسريب مصادر من الحكومة البريطانية معلومات بملاحقة المشتبه بهم بأنهم إرهابيون وإدانتهم بسبب خيانة القوانين. من المؤكد أنه يمكننا أن نصف أولئك الذين يصفون الأبرياء بالإرهابيين والخائنين لكن تجربة بريطانيا في القرن العشرين مع الخيانة وعدم الالتزام بالقوانين كانت منافية للعقل والمنطق ومن غير المرضي أن يستمر بعض المحامين في نهج ذلك الطريق مرة ثانية.
وفي كل حملة عسكرية مقاومة للإرهاب داخلياً وخارجياً سيبدو الصراع ضد المتعصبين الإسلاميين واضحاً لا جدل فيه من قبل مساعي الشرطة والاستخبارات وإلى حد ما بالصراع الموسع إلى قلب الجماعات الإسلامية في بريطانيا, لكن لا يبدو أبداً أن مثل هذه الحملات تقلل من عمليات الإرهاب بل إنها تسيء بشكل أكبر للقانون. وقد قدم ميشيل هوارد سجلاً فاسداً عن ملاحقة قضايا الشعب من دون اعتبار لعلم الجريمة أو الأخذ بنصيحة الخبراء القانونيين من خلال عطشه الحثيث لفرض تغييرات على القانون بدل أن يتعلم شيئاً من تجربة العقود المنصرمة ومن المناسب أكثر للمعارضة أن تسعى للقيام بحملات لإجراء تعديلات على قوانين حقوق الإنسان.
لكن على العكس يبدو أنها تتجه في مسارها الخاطىء وهي تحث السلطة القضائية البريطانية على الرضوخ والاستسلام في حين أن نظامنا الديمقراطي بأمس الحاجة لمشاركتهم وربما أكثر من أي وقت مضى.