تخلى عنها لفترة من الزمن وما ان احتاج اليها عاد، قالبا سافل الأرض أعلاها وقاطفا كل الثمار العالية (دون استعمار) ودون دبابات فالاستعمار يحن دوما الى ماأخذه عنوة كالمجرم الذي يعود الى مسرح جريمته.
كان الطيب الصالح يتحدث بلسان الشخصية الرئيسية, مصطفى سعيد» المهاجر الى بريطانية ثم العائد الى السودان والذي قتل زوجته لأنها ترفض املاءاته معتقدا أن زوجته الأجنبية تعيش تحت جناح «السيد» والرواية تستمد قوتها من كاتب عاش في بريطانيا وفي فرنسا ومات في مشفى على سرير في احد المشافي البريطانية ويعرف التاريخ الذي قضى به أجداده ويعرف كيف كانت ترهق كراماتهم في غابات افريقية الغنية وكيف غادروا وكيف عادوا ثانية الى أرض القارة السوداء يشغلون سكانها عبيدا في مصانعهم وأجراء في أراضيهم, كان يعرف الكثير لكنه كان مصراًعلى رؤية الغرب وذكر الناقد أحمد الفيتوري في مقال له «بالاندبندت العربية بعددها الصادر بتاريخ 23آب من العام الجاري أن: رواية الطيب صالح، سفر العنف، كُتبت أثناء الهجرة الأولى للجنوبيين إلى الشمال، ما بعد الاستعمار، ما حدث عقب الحرب العالمية الثانية.
مع تحقق نتائج مشروع مارشال الأميركي في أوروبا، نهضت دول الاستعمار من كبوتها الكبرى الثانية (التنافس الإمبريالي)، حيث اجتاحتها حاجة مُلحة إلى العمالة مع خمسينيات وستينيات القرن العشرين، بدأ «موسم الهجرة إلى الشمال»، وحين كُتبت الرواية كانت الهجرة المرغوبة من الغرب على أشدها، وفي أثناء هذا قام الغرب وتوابعه باستنزاف الطبيعة وتهديد الأرض، ما نتج عنه أن قارة أفريقيا دفعت الثمن النفيس. ومن هذا فالرواية استشرافية, وتصورية لمستقبل محتوم! فالقارة التي جعلها الاستعمار في مرحلته الأولى مزرعةً للعبيد في مرحلة ما بعد الاستعمار، أضحت الضحية الأبرز لاستنزاف الطبيعة وتدمير الأرض، خصوصاً أنها عاشت هذه الحقبة في حروب بالوكالة بشكل مضطرد.»
فهل بدت رواية الهجرة الى الشمال استقراء تخص السودان فقط؟ أم أنها اسقاط التاريخ الماضي على جغرافيا العرب الحاضر بشكل شبه كامل.هاجروا فأنقذوا أوروبا من الشيخوخة وأعادوا اليها الطاقة الشابة ثم حلوا في بلادنا بعد أن, فتحوا لهم الحدود وألبسوهم وأطعموهم وأجبروهم على تعلم لغتهم التي خافوا عليها من الانقراض, بحثوا في أكثر المجتمعات شبابا وقوة وعمالة فأصابوا بالسهم الهدف واما هم فقد بدؤوا يتقاسمون كل شيء في بلادنا الغنية بالثروات, في هذا الوقت بدأ المهاجرون الى «الشمال» يدركون حجم الكارثة التي أصابت بلادهم لكن كثيرا منهم يعودون وكثيرا منهم يحنون الى بلدهم دون أن تغير دول الشمال والجليد والصقيع دفء ذلك الحضن الغني حيث يقول الطيب الصالح في روايته:» نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي، فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه.»
لم يعد ذلك الموسم وحيدا!
وسوف يبقى الحنين قائماً