الدربُ نحو مركز الشام مزدحم، لا إطلاقات هذا الصباح، بعض الضجيج يتسلل من ضحكاتِ الأطفال الراكضين نحو مدارسهم، بأزرقَ الأثواب يتماوجون فوق الأرصفة، قطعاً من السماء تتراقص هنا وهناك. لا حرب هذا اليوم القذائف عنهم خجلى، بشحوب وجهها، صامتة تغيب في أروقة المدافع.
من مرايا الجبهات السمراء، تعرف شمس أيلول كيف تنثر هالاتها في أخاديد دمشق، متى تغلق النوافذ المكسورة، وترمم جدراناً صدعتها الحرب. كيف تعلّم الأيدي غزلَ خيوطها الفضية، أن تنسج منها سلامها القادم.
في الصباحات لا إشاعات يتهامسها ركاب الحافلات، ولا تنفث أشجارُ الرَّصيف غبارَ الأخبار، حتى صخبُ القلق لم يعد يلفُّ جلسات القهوة. الدربُ يمضي بنا إلينا، يجمعنا بذواتنا بعد طول هجران.
أليس عجيباً أن يقف خطٌّ وحيدٌ بين تناقضات الكون كلها، سألتُ ذاتي التي التقيتها مؤخراً في إحدى المنعطفات. إنها الحرب، الجنود يتمترسون خلف بنادقهم، وراء السواتر الترابية المحصنة بالورود، لحظة، ورود ؟؟
-نعم زرعتُها هنا « بنبضِ الحياة ندافع عن الوطن «. زهور حمراء هي، كتراب سواترهم، كقلوبهم، كدمائهم المتأهبة للتدفق جوارها.
- ليس غريباً أن يكون للساتر الحربي، أكاليل أرجوانية تتحدى الرصاصَ ببتلاتها، للندى ذاكرة كذاكرة الزناد، له ذكريات أيضاً كتلك التي يحفظها زنار الذخيرة حول الخاصرة.
توقفتُ أرقب الأزرار تحضنُ لمعان البنادق. الجندي الذي نثر في وجه المعركة بذرة، عرفَ أن في الحرب براعماً تزهر، أن الماء في علبته المعدنية يكفي أن يشرب و أغصان حلمه معاً.
- العزف على أوتار الألم، و ملامح من رحل، هذا ما أورثتنا إياه المعارك أيتها «الصحفية». «وأودعتني قرمزي الحبر أيها الجندي».
يا من رحلَ، تعال، اعتزلَ الملائكةُ العرشَ منذ دهور، هبطوا يضمدون جرحى الحرب.
إلى جسدك الممدد على حرير الوطن، عُد، امرأتك التي فكّت جدائل الزمن، تتنقل به على رؤوس أصابعها، مودعة حباتِ الهيل شايَك المفضل، قادمة به، في شفاهها حكايةُ برعمٍ مورق، زرعته شمسُ الشرفةِ، ذات حنين.
-» لا تكتبها لي، اهمسها للشذى أخباركَ «تشير إليه فتاةٌ، مسرعة تمر بي وتعبر حاجز الورد:
« أميّةٌ بلغةِ العطر، صماءُ هذي الحرب»، الحبيبُ الذي لا موعد يجمعه بها، ابتسم وسلاحه.
في كفي تركَ الجنود أحمرَ التويجات، وفي خطواتي انفصل الدرب عن اتجاهاته، تعقبني النسيم الخريفي ناثراً حولي وريقاته، مزيلاً عني شرائطَ الحزن. مضيتُ ومعي ترفرف بسماتهم وأحلامهم، أولئك العابرين صوب الآتي.
في حارات دمشق، قرب النوافذ الضاجة بعبق القهوة، عبر ياسمين الشرفات، ووجه المقاعد المدرسية، متسللاً من ليل المدافع يتجولُ الصباح، أبيضُ كاللانهايات، كورديّ المطلق وتبرعم المستحيل، يعقدُ بشرائط بخوره جدائل الدخان المتكاثف، ويعيد لصخب المدينة موزون النغمات.