أتحدث عن أحد أبطال سورية الذي خبر الحرب وكان نسراً في حرب تشرين ، أتحدث عن العميد الطيار أديب عجيب الجرف الذي سمعت عنه الكثير، منذ كنت طالبة في المدرسة لكن لم ألتقيه إلا منذ أيام بالرغم من أنه ابن مدينتي السلمية التي أنجبت الأبطال في كل مجال .. إنه أديب الجرف واحد من ثلاثة عشر ابنا في« خانة عجيب» عاش في بيت طيني سقفه من الخشب وكثيراً ما كان يدلف شتاء شأنه شأن كل البيوت ،ولأن الحال متشابه فقد كان أديب متميزاً كما تميز الكثير من أبناء جيله ،وربما كان الفقر حافزاً كي ينال الثانوية العامة بتفوق في مادة الرياضيات والفيزياء واللغة ونيله العلامات التامة فيها دون مدرس خصوصي حيث لم يكن معروفا آنذاك.
حادثة لن تنسى
أنا أديب عجيب الجرف مواليد [6- أيار -1946]انتسبت للكلية الجوية بتاريخ [6-4-1966]وتخرجت منها عام 1968حائز على المركز الأول بالطيران.
وبتاريخ 15-10 -1967 مازالت الحادثة ماثلة أمام عيني كأنها الآن حيث حصل اصطدام بالجو أثناء التدريب واحترقت الطائرة التي كنت فيها واستشهد مدربي وفي أثناء اشتعال الطائرة، استطعت إنقاذ نفسي بعد أن قفزت من نافذة الطائرة حيث كان الهواء يعيدني إلى الخلف وأنا أعانده متشبثا بالحياة ونجوت بأعجوبة الأمر الذي غرس في نفسي إحساسا بالقوة والارادة وخاصة بعد أن استدعاني القائد الخالد حافظ الأسد والذي كان وقتها وزيراً للدفاع وقائداً للقوى الجوية ،حيث كان شديد التأثر عندما شرحت له حادثة الاصطدام بتفاصيلها وخيرني بالتحويل إلى أي اختصاص فقلت لسيادته : قبل أن أدخل الكلية الجوية كنت أسمع عن طيارين فقدوا حياتهم بطرق مأساوية ولم تزدني هذه الحادثة إلا اندفاعا وحبا للطيران، لذا لا أرغب بتغيير اختصاصي، وعندما ودعته وضع يده على كتفي وقال :«أديب، إنني أتوقع لك مستقبلاً باهراً بالطيران» هذه العبارة جعلت مني أديباً آخر يصبو إلى النجاح والتميز ولو كان ذلك على حساب جهد وتدريب عالي المستوى ،لا أعرف التعب ولا الملل ،المهم الوصول إلى قمة القمم مع إرادة منقطعة النظير، صممت أن أكون ناجحاً جداً لا أقبل بالحلول الوسط .
مع هذا التصميم دأبت على التدريب بأساليب القتال واستطاع نسورنا تحقيق مكاسب في فن القتال الجوي عجز عنها الآخر في الداخل والخارج ،وكان هدفي الأساسي أن أسقط طائرة على الأقل للعدو الغاشم.
وكان التدريب مضنياً جداً والاستعداد مستمر ودون استراحات، وكاننا نحضر لحرب دون أن ندري، وكان القائد الخالد حافظ الأسد يشرف على تدريبنا اشرافاً مباشراً طالباً منا شد الهمم والعزائم حتى جاء اليوم الموعود في السادس من تشرين الأول من عام 1973 وعرفنا أن الحرب بدأت وتلقت كافة الأسراب الجوية مهامها.
مرصد جبل الشيخ
كانت مهمتي- وأنا قائد تشكيل جوي - حماية طائرات السوخوي المكلفة بقصف مرصد جبل الشيخ لما لهذا الموقع من أهمية استراتيجية كبرى وكان يشوش علينا وعلى القوى البرية ويؤثر على دقة تنفيذ المهام وتمت العملية بنجاح باهر وكانت الاصابات مباشرة ومدمرة -وهذا مارأيته بعيني - ثم أتت الحوامات وأنزلت قوات من الوحدات الخاصة لتعقيم المكان من براثن الأوغاد ولتستعيد مرصد جبل الشيخ ويرفع علم الجمهورية العربية السورية ، ولن أنسى ماحييت تلك اللحظة ولن أنسى كيف كانت ألوان العلم تخفق مع دقات قلبي وكيف بكيت فرحاً بالانتصار الأول.
في اليوم الثاني
بدأنا بترقب العدو لنتصيده واستطعنا حماية الجبهة ومنع اقتراب طيران العدو من قواتنا البرية، ولنترك للمدفعية مجالاً للعمل بحرية كاملة ،وأنا ممتن بكل الحب إلى سلاح صواريخ الدفاع الجوي الذي أسقط المئات من الطائرات الاسرائيلية وهيأ للطيران ظروف معركة مناسبة مؤاتية للنصر .
دمشق في خطر
بتاريخ 10 - 10 - 1973 تلقيت أمراً بالاقلاع اتجاه بيروت وقالوا لي : إن رتلا من الطيران المعادي يقترب من البحر اتجاه بيروت ثم باتجاه دمشق ما يعني أن دمشق في خطر وكان ضمن تشكيلي ثماني طائرات ميغ حديثة توجهت إلى بيروت من الجهة الشرقية وأبلغتنا غرفة العمليات أن رتلا من الطائرات يتقدم نحونا من الجنوب على نفس الارتفاع بهدف اشغالنا والاشتباك معه كي تخلو السماء للاخر فينقض على دمشق ،لكن هيهات.. أرسلت أربع طائرات مهمتها الاشتباك مع طائرات العدو وبقينا في سماء بيروت إلى أن رأيت طائرات الفانتوم فوق بيروت بحدود عشرين متراً وعندما وصلت بيروت كنت نفذت عملية نوعية في طريقة الهجوم عليها وأسقطت طائرتين وخسرنا واحدة وأرجعت العدو مندحراً ومتراجعاً, ولم تنجح خطتهم وأنقذنا دمشق وكانت هناك محاولات لقصف المطار الحربي وتوصلوا إلى قصف المهبط إلا أننا تابعنا الإقلاع على الجهات السليمة وعلى التراب وواجهتنا 16 طائرة أسقطت منها طائرتين إحداها عند حله غربي القطيفة وانسحبت باقي الطائرات ،وفي 22 من الشهر نفسه بدأ الاقتتال على مرصد جبل الشيخ فأسقطت طائرتي ميراج في منطقة بيت تيما.
خذلنا السادات
خذلنا السادات في آخر أيام الحرب وأوقف إطلاق النار على الجبهة المصرية وتركز الضغط على جبهتنا من خلال سلاح الجو الصهيوني الذي تفرغ للجبهة وكنت أناور وأشتبك وانا قائد تشكيل لثماني طائرات مع 20 طائرة معادية إلا أن الاشتباك الأخير كان 4 طائرات مقابل 240 طائرة، وأصبت في المعركة الأخيرة وبينما كانت طائرتي تحترق كنت أفكك فيلم الكاميرا الذي يثبت إصابتي لطائرتي الميراج وكان الفيلم ساخناً ومحروقاً ،وضعته في صدري واحترق مكانه وكنت مستعداً أن يحترق قلبي على ألا أفرط فيه واسعفت الى مشفى حرستا وكانت إصابتي عبارة عن 35 كسراً وخلعاً مازلت أحمل بعض آثارها .
في مشفى حرستا
بعد المعركة الأخيرة تأكدت التضحية والايثار، التي تناولتها كتب التاريخ منذ الفتوحات الاسلامية وحفظناها عن ظهر قلب في المدارس حيث كان برفقتي أحد الطيارين ويدعى الملازم أول محمد نايف قدور العينية - يصرخ بأعلى صوته «اترك المعركة وأنا أتلقى الضربات عنك ، اترك المعركة وأنا أموت عنك» ولكننا استمرينا معا وأصبنا معا ونقلنا إلى المشفى معا، وفوجئت به وهو يدخل غرفتي في المشفى مصاباً وقدماه مدماة والغضب باد على وجهه، يصرخ بطريقة هجومية «ليش عملت هيك قلتلك روح أنا بموت عنك».
ويتابع بطل الجمهورية العميد الطيار أديب الجرف بهذه الروح كنا نقاتل وبهذا الايثار يمكن أن ننتصر دوماً، وبعد ثلاثة أيام عدت الى أسراب القتال وكانوا يحملوني ويضعوني في الطائرة رغم الألم.. لكن ليس أصعب من فراق الطائرة وسماء الوطن.
كان العميد أديب الجرف يقبل طائرته قبل أن يقودها وهذا بشهادة زملائه ويقول فيها : طائرة لم أضغط على زنادها مرة إلا وأصابت ... إنها رائعة جداً.
الطيار الصهيوني جبان
وعن رأيه بالطيار الصهيوني قال: إنه جبان بقدر ما نحن شجعان ووجه له الكلمة التالية: بعد أربعين عاماً مازلت أنت المعتدي ولو لم تأت إلى سمائي وحملت الدمار إلى أهلي ما كنت لأسقطك فان لم أقتلك قتلتني واذا كنت قد أسقطت سبع طائرات لك فقد كان باستطاعتي تقديم المزيد لأني أشعر أن كل الناس برقبتي وسيحاسبني الله والتاريخ .
كلمة صادقة
وقال البطل الجرف لم أشهد حناناً كحنان القائد الخالد حافظ الأسد، لكنه لم يذكر لماذا، واضاف: لو اجتمع حنان الأب والأم والخالة والعمة والابنة والحفيدة وكل حناين الدنيا لما وصلوا الى حنان القائد حافظ الأسد «لكن الكلمة الصادقة لاتحتاج في أكثر الأحيان إلى أدلة.
في نهاية هذه الجلسة وللمرة الثانية شعرت أن أحداً نشل ذاكرتي المفعمة بالألم ليحولني إلى واقع فيه الكثير من البطولة والكثير من واقع لايشبهنا اليوم.
وجاءت الجلسة مع الطيار الذي نال وسام بطل الجمهورية وحيداً في المنطقة رغبة في استعادة ما فقده البعض من وفاء للوطن وغادره عند أول كبواته، ولم يتذكر ما قاله الجواهري : دمشق صبراً على البلوى فكم صهرت سبائك الذهب الغالي فما احترقا.