ففي هذه المعركة تمّ تدمير الوحدات المعادية في مرصد جبل الشيخ، كما تمّ أسر عدد من الإسرائيليين بأقل وسائط ممكنة في تاريخ الحروب.
كان مرصد جبل الشيخ المعادي يرتفع عن سطح البحر 2224 متراً وكان بطبيعته موقعاً منيعاً وهو يسيطر على كل المناطق الممتدة من سفوح جبل الشيخ الشرقية، إلى غوطة دمشق وسهول حوران.
وإن السير عبر المسالك المؤدية إلى المرصد أمر في غاية الصعوبة وكان معلوماً لدى القيادة أن العدو جعل من هذا الموقع قلعة حصينة، وجهز بأحدث الأجهزة الالكترونية للاتصال والمراقبة والتشويش.
***
في ليلة 6 تشرين الأول، وقبل بدء الهجوم، تمكّنت مجموعة من الوحدات الخاصة من الوصول إلى محور شبعا ـ جبل الشيخ، حيث نصبت كميناً لقطع الطريق على القوات القادمة لنجدة المرصد أثناء مهاجمته من قبل قواتنا.
وفي ظهر يوم 6 تشرين الأول، بدأت المعركة من أجل احتلال المرصد المعادي، بعد بدء التمهيد الناري حيث تقدمت الموجة الأولى من الوحدات الخاصة باتجاه المرصد المعادي، قد كان من المقرّر أن يتم اقتحامه على شكل موجات متلاحقة، وتتكون كل موجة من مجموعة من المقاتلين يتقدمهم ضابط.
أما مجموعة الحماية فقد تمركزت مسبقاً في المنطقة الغربية منه، ومهمتها تدمير أي قوات معادية تتقدم باتجاه المرصد.
وعند وصول الموجة الأولى إلى المرصد، اندفعت نحو المدخل الخارجي، وتمكّنت من تدمير الرشاش 12,7 مم، الذي فتح نيراناً غزيرة عليها.
وقد أُصيب قائد الموجة الأولى الملازم أول جاسم الصالح برشقة في صدره فسقط جريحاً أمام مسند الرشاش المعادي ثم سقط جريح ثانٍ، وثالث حينئذ تولّى النقيب محمد الخير الذي كان يشرف على تقدّم قيادة المجموعة الأولى، وفي هذه الأثناء اندفع أحد مقاتلي المجموعة الأولى باتجاه سارية العلم الإسرائيلي المرفوع فوق المرصد إلاّ أنّ رشقة نارية من عربة مدرّعة معادية عليها رشاش 12,7 مم حالت دون وصوله إلى العلم، فسقط شهيداً مضرّجاً بدمائه تحت السارية.
قاوم العدو بكل صلابة وعناد واتخذ القتال طابع العنف الشديد ولاسيما عندما تمّ إنزال جوي رأسي بوساطة طائراتنا العمودية فوق المرصد، واندفعت عناصر الإنزال بجرأة نادرة تقاتل جنباً إلى جنب مع عناصر الموجة الأولى.
وبإشارة من النقيب المشرف على التقدم قفز أحد المقاتلين على العربة المدرّعة من فوق السور الداخلي، وتمكن من قتل الإسرائيليين اللذين كانا يفتحان النار على المقاتلين.
بعدها اندفع النقيب باتجاه سارية العلم، وعندما حاول أحد الإسرائيليين قتله، بادره بقنبلة يدوية أردته قتيلاً، وصعد النقيب الدرج المؤدي إلى سارية العلم. وعلى الرغم من النيران الإسرائيلية، أمسك بالعلم، وأخذ يلوح به بيديه وهو يردد صيحة النصر: الله أكبر.. الله أكبر عاش الفريق الأسد.
ولم يكد المقاتلون يسمعون صيحة النصر، تُجلجل في الموقع حتى اندفعوا كالصواريخ وهم يرددون: الله أكبر.. الله أكبر، التي انطلقت من حناجرهم هادرة كالرعد القاصف واقتحموا الموقع الحصين، كل منهم باتجاه الهدف المحدد له.
شاهد أحد المقاتلين ضابطاً إسرائيلياً يحاول رمي النقيب محمد أثناء اندفاعه إلى سارية العلم، فأسرع كالبرق الخاطف، وهدد الضابط الإسرائيلي بقنبلة يدوية طالباً منه رمي السلاح والاستسلام، فأسقط ما في يده، ورفع يديه مستسلماً.
وأثناء القتال العنيف، الذي دار فوق المرصد، تم إنزال مجموعة أخرى من الوحدات الخاصة بالحوامات إلى الغرب من المرصد المعادي، وعلى بعد ثلاثة كيلو مترات، حيث نصبت المجموعة كميناً على محور مجدل شمس ـ جبل الشيخ.
وبعد نجاح عملية اقتحام المرصد، التي لم تستغرق سوى نصف ساعة، تحركت مجموعة التطهير، وقامت بتطهير سراديب المرصد.
وقد تمكنت من أسر عدد من الإسرائيليين، الذين كانوا مختبئين في الغرف الداخلية ضمن السراديب.
وفي صباح 7 تشرين الأول قام العدو بقصف جوي ومدفعي متواصل وشديد على المرصد المحتل ـ إلاّ أنه لم يسفر عن أي نتيجة وتابعت المجموعات القتالية أعمالها في تنظيم الدفاع عن المرصد، وإخلاء الشهداء والجرحى، كما تابعت تطهير الممرات والسراديب الداخلية، حيث ظلت بعض الغرف مغلقة بأبوابها الحديدية التي لا ينفذ منها الرصاص، وكلفت مجموعتان بمتابعة التطهير، وقد استعانت هاتان المجموعتان بالأسرى، لاسيما الشرقيين منهم، من أجل الاهتداء إلى مداخل المرصد ومخارجه، وجرت عملية التطهير بصورة ناجحة على الرغم من بعض العناصر المعادية التي أبدت مقاومة كبيرة، واحتمت خلف الأبواب الحديدية السميكة في الغرف الداخلية.
إلا أن القنابل الدخانية واليدوية الهجومية، التي أُلقيت عليهم من فتحات التهوية في سطح المرصد، اضطرتهم للخروج والاستسلام، وهدّأ النقيب من روعهم وأخبرهم أنهم سيعاملون كأسرى.
وفي صباح 8 تشرين الأول حين كان مقاتلو الوحدات الخاصة في أماكنهم حول الهضاب المحيطة بالمرصد وفجأة دوى انفجار قنبلة من طائرة معادية فزلزلت الأرض وتبع الانفجار الأول انفجار ثانِ وثالث وتوالت الانفجارات من طيران العدو ومدفعيته.
سمع قائد مجموعة الكمين على محور مجدل شمس ـ جبل الشيخ، هدير محركات وصليلاً (سلاسل دبابات ومجنزرات..) وكان الجو يتميز بالضباب الكثيف الذي ينقشع لفترة قصيرة ثم يعود.
ومن موقعه الدفاعي شاهد الدبابات المعادية تتقدّم على محوري مجدل شمس ـ جبل الشيخ، وشبعا ـ جبل الشيخ باتجاه المرصد.
أخبر قائد الكمين النقيب.. وكانت عناصر القواذف المضادة للدبابات موزّعة ما بين المرصد والكمين على مجموعات، تتألف كل مجموعة من ثلاثة مقاتلين مزودين بالرشاشات الخفيفة والمتوسطة والقنابل المضادة للدبابات.
وزرعت الألغام على المحورين زرعاً ظاهرياً لإرغام الدبابات على الوقوف، وترجل عناصر العدو لإزالتهم فيكون الجميع هدفاً وضاحاً للنيران.
تابعت الدبابات المعادية تقدمها، وكمن المقاتلون في مواقعهم، منتظرين وصول أولى الدبابات.
وما هي إلاَّ نصف ساعة، حتى وصلت دبابات العدو وتوقفت أمام الألغام الملقاة بطريقة واضحة على الطريق، وترجل منها الجنود الإسرائيليون لإزالة الألغام وهنا انهال المقاتلون على جنود العدو ودباباته، وأخذوا يقذفونها بالقنابل المضادة للدبابات فاشتعلت النيران فيها.
ولقد قدر عدد الدبابات المتقدمة على محور مجدل شمس ـ جبل الشيخ بـ 35 دبابة ومجنزرة.
وعلى محور شبعا ـ جبل الشيخ بحوالي 45 دبابة ومجنزرة.
وفي هذه الأثناء بدأت المعركة، وأخذ النقيب محمد قائد المجموعات يتلقى تقارير القتال من مجموعات الهضاب الغربية عن تسلل عناصر معادية.
وكان الأمر الصادر عنه: دمّر العدو، وامنعه من التقدم.
ونشبت في منطقة الهضاب الغربية اشتباكات مباشرة بين المقاتلين والإسرائيليين، استخدمت فيها الرشاشات والقنابل اليدوية والحراب.
وأثناء القتال العنيف، تمكنت مجموعة معادية من التسلل من سفوح المرصد الجنوبية الشرقية المقابلة لقرية حضر إلاّ أن أحد الضباط المقاتلين قام مع خمسة من عناصر مجموعته بالالتفاف حول السفوح الشرقية الجنوبية للمرصد، بينما قام ضابط آخر بتثبيت العدو بالنيران وتمكن الضابط الأول من تركيز رشاش متوسط على إحدى الهضاب، وفتح النيران فجأة على العدو ودمره.
وعندما تابعت بقايا من دبابات العدو تقدّمها على المحورين المذكورين، تكفلت بالقضاء عليها المدافع المضادة للدبابات المتمركزة في الهضاب، واندفع المقاتلون يصبون سعيرهم عليها، وشتتت غزارة النيران تشكيل العدو القتالي.
ومن البطولات الرائعة قيام أحد المقاتلين بمأثرة بطولية.. فأثناء صد هجوم العدو المضاد، أمسك بقنبلة يدوية، وزحف باتجاه دبابة القائد المعادي، وانتظر حتى اقتربت الدبابة، وبقفرة واحدة، تسلق جسم الدبابة من أعلى، وفتح الغطاء وألقى بنفسه وبقنبلته اليدوية فيها.
وفجأة أصبحت الدبابة الرهيبة كتلة من الخردة والحديد المحترق.
وعندما تبدد الدخان، شاهد المقاتلون الدبابة مشتعلة واندفعوا بحماسة وإقدام ليثأروا للبطل الشهيد.
شكل صمود الوحدات الخاصة وحماسة مغاويرها مفاجأة تامة للعدو، الذي سرعان ما لجأ إلى الفرار من أرض المعركة، بعد أن خلف عشرات القتلى وراءه إلاّ أن المقاتلين من مغاوير الوحدات الخاصة كانوا للعدو المنسحب بالمرصاد.
وقد تمكنت سرية مغاوير، كانت تهاجم في منطقة مجدل شمس على مجنبة الفرقة السابعة من تدمير العناصر المعادية المنسحبة وأنزلت بهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
لقد أصبحت هزيمة مجموعة الدبابات المعادية التي اندحرت في منطقة جبل الشيخ مأثرة من مآثر البطولات الخارقة لا يرقى إليها الشك، ولقد منح النقيب محمد الخير وبعض المقاتلين وسام «بطل الجمهورية» تقديراً لما أبدوه من جرأة وشجاعة في هذه المعركة.
ملاحم بطولية سجّلها التاريخ
إن أهم ما جرى في هذه الفترة كانت معارك جبل الشيخ الدفاعية وتفصيل هذه المعارك كما يلي:
يدور الحديث هنا عن المقاتلين المغاوير، الذين تبدت صفاتهم البطولية في أكثر الأيام بلاءً وصموداً، فوق مرتفعات جبل الشيخ، وإن خلف كل صخرة، وكل تبة، مأثرة من مآثر الدفاع البطولي، الذي تجسد في شجاعة المحاربين المغاوير وتفانيهم.
كان جبل الشيخ موضع اهتمام القيادة العسكرية الإسرائيلية الزائد، وكان تفكيرهم مركزاً على استعادة المرصد المعادي من أيدي المقاتلين السوريين، وأخذت الطائرات الإسرائيلية تغير في موجات على المواقع الدفاعية فوق التباب المحيطة بالمرصد، وإن ما حدث في 21 و 22 تشرين الأول عام 1973 في منطقة جبل الشيخ أمر يفوق التصور والخيال، ففي هذه المنطقة جرت معركة دفاعية مستميتة وكان زئير الطائرات المنقضة يختلط بالقصف المدفعي ورمي الهاونات، محدثاً دوياً مستمراً، بحيث يبدو من المحال في بعض الأحيان، أن يظل المرء حياً، وأن يصمد في هذا الخضم من النيران.
جرت آنذاك معارك طاحنة، وحارب الرجال ببسالة رائعة، وكانوا يوجهون الضربات إلى العدو الصهيوني، ويلحقون به الخسائر في الأرواح والمعدات، وانتشرت في هذه المنطقة شظايا المدافع وحطام الدبابات المدمرة والمحترقة.
في هذه المعركة الدفاعية، انعكس كل غضب الشعب العربي، الذي صمم على القتال والاستشهاد.
ومنذ بداية المعركة، ومن الساعة الأولى للقتال، كان يسيطر على المقاتلين شعور واحد هو «الصمود»، وخلال ثلاثة أيام، قبل بداية هذه المعركة الدفاعية، كانت الطائرات الإسرائيلية توالي انقضاضها على مرصد جبل الشيخ وعلى المواقع الدفاعية المحيطة به.
وفي الساعة 15,15 من يوم 21 تشرين الأول، اتصل قائد الكتيبة 82 مظلات، بالمرصد الصديق في جبل الشيخ يستفسر عن الموقف الذي كان ينبئ عن معركة عنيفة ستدور بالقرب منه، ولاسيما أن العدو الإسرائيلي قد ركز نيرانه على هذه المنطقة، منذ الدقائق الأولى للمعركة، تركيزاً خاصاً، وهنا، دوت فجأة صوت طلقات على التباب المحيطة بالمرصد القديم، التي هبطت عليها طائرات عمودية (هليوكبتر) معادية، تحمل مجموعات من «الكوماندوس» الإسرائيليين.
واصل المقاتلون في المرصد القديم (الصديق) مقاومتهم باستماتة وضراوة، ولم يلقوا من أيديهم السلاح، كانت مقاومتهم تزداد مع ازدياد عدد الطائرات العمودية المعادية التي كانت تهبط في منطقة المرصد الصديق، استمر القتال في هذه المنطقة ساعة ونيفاً بشراسة لم يعرف لها مثيل، واستطاعت مجموعة من المقاتلين السوريين، أحاط بها عدو متفوق في العدد والعتاد، أن تدافع عن الأرض الطاهرة بصمود وثبات خارقين.
وكان المقاتلون السوريون في المرصد الصديق يقاتلون حتى عندما استخدم العدو نيران مدافع الهاون التي أسقطها بوساطة الطائرات العمودية.
إن المعركة الطاحنة في المرصد القديم، لم تجر فقط على الأرض بعد الإنزال، بل وفي الجو أيضاً قبل الهبوط، لم يكن هجوم العدو الإسرائيلي على المرصد الصديق إلا تمهيداً للهجوم الكبير على المرصد الجديد الذي احتلته قواتنا في أول يوم من أيام حرب رمضان، لم يكن أحد يشكّ في أن العدو الصهيوني، على الرغم من تكبده خسائر كبيرة، وكونه بحاجة ماسة إلى استعادة قواه، سوف يزجّ بقوى جديدة، وبأعداد كبيرة، من أجل إعادة احتلال المرصد الذي أصبح في أيدي القوات السورية.
وكانت قوات المظلات والمغاوير تشغل المرتفعات المسيطر عليها حول مرصد جبل الشيخ، وتتمتع بإمكانية رصد جيدة، ولم يمض وقت طويل حتى شدد العدو قصفه الجوي ورمايات مدفعيته وهاوناته على منطقة المرصد الجديد، الذي يحتله المقاتلون السوريون، غربت الشمس، ولكن الجو ظل مضيئاً بسبب الانفجارات والأنوار الكاشفة وليس شفق الشمس الغاربة، لقد توهج الليل بومضات ملتهبة، وغرق كل شيء في القصف الشديد الذي يصم الآذان ويهز الأرض.
لم تغمض في هذه الليلة عيون المقاتلين الصامدين، فقد كان عليهم أن يكونوا يقظين كل اليقظة كي لا يتيحوا للعدو فرصة التسلل في جنح الظلام، ولا يمكنوه من الضربة المفاجئة، وكان المقاتلون المغاوير موزعين على ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى: تدافع باتجاه مجدل شمس ومسعدة.
المجموعة الثانية: تدافع باتجاه بانياس.
المجموعة الثالثة: تدافع باتجاه حضر والقنيطرة.
وفي الدقيقة الثلاثين من يوم 21 تشرين الأول أخبر قادة المجموعات قائد الموقع أن دبابات العدو وآلياته تتقدم على ثلاثة محاور تؤدي إلى مرصد جبل الشيخ:
ـ محور عين قنية ـ مرصد جبل الشيخ.
ـ محور جبل الروس ـ مرصد جبل الشيخ.
ـ محور مركز التزلج «محور ترابي».
أخبر قائد الموقع بدوره، رئيس أركان الكتيبة 133 مغاوير بالموقف، وكانت تعليماته تقضي بالامتناع عن فتح النيران، والسماح للعدو بالتقدم حتى مسافة قريبة جداً.
وفي الدقيقة الخامسة والأربعين بدأت عناصر الأسلحة م/د «ر . ب . ج» بالرمي على الدبابات المعادية المتقدمة على المحاور الثلاثة، وفي الوقت ذاته أخبر قائد المجموعة الأولى أن العناصر المعادية ترجّلت من الآليات، والتفت حول موقع المجموعة من الجهة الخلفية، ولم تكد تصبح على مسافة قريبة حتى أمطرها المقاتلون المغاوير بنيران مفاجئة، أثارت في صفوفها الرعب والفوضى، وبعد اشتباك عنيف سقط عدد كبير من الأعداء يقدر بثمانين جندياً، وتمّ تدمير عدد من الدبابات.
وفي آن واحد، وجه مغاوير المجموعة الثانية ضربة نارية مميتة إلى العدو المتقدم، أشاعت الفوضى في صفوفه، وفي صوت واحد غاضب غطى ميدان القتال، كانت تجلجل صيحة النصر «الله أكبر».
ومن الخنادق والحفر الفردية، تدفق سيل من النيران، وأوقع خسائر كبيرة في قلب القوات المعادية المهاجمة.
كانت هذه أول ضربة نارية كاسحة، كبدت العدو خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، وقد انتهت كل المحاولات الهجومية التي قام بها العدو الإسرائيلي للوصول إلى مرصد جبل الشيخ، لاستعادته من القوات السورية، بالفشل الذريع، وأصبحت المحاور الثلاثة المؤدية إلى المرصد تحت نيران أسلحة السرية الثالثة من كتيبة المغاوير 133، أعطت المواقع الدفاعية الصديقة، وقد غطتها مدفعية العدو بالقذائف وطائراته بالقنابل، صورة مشرفة عن الدفاع البطولي الصامد، ومضى الليل وأطل صباح يوم 22 تشرين الأول، عند ذلك لاحظ الجميع أن القصف أصبح قوياً يصم الآذان ويهز الأرض.
اتصل قائد المجموعة الثانية بقائد الموقع، وأخبره أن العدو بدأ بإنزال طائراته العمودية شمال غربي المرصد، وأن قوات الكوماندوس الإسرائيلية الهابطة على بعد 500 ـ 800 م، بدأت تتقدم على أنساق، وأن العدو أنزل عدداً من الطائرات أيضاً على الموقع 2224 الموجود شرقي المرصد، ترجّل منها عدد من العناصر المعادية، أقامت كمائن ونقاطاً نارية، راحت ترمي على المرصد من الاتجاه الشمالي والشرقي بالتعاون مع القوات المهاجمة، على المحاور الثلاثة السابقة نفسها.
وفي هذه الأثناء كانت المواقع الدفاعية الصديقة معزولة، تحيط بها القوات الإسرائيلية، التي حاصرتها كالخاتم، اتصل قائد المجموعة الثالثة بقائد الموقع، وأخبره أن العدو قد بدأ هجومه الثاني مستخدماً الدبابات استخداماً كثيفاً، ولم يكن العدو يقترب من المواقع الدفاعية الصديقة حتى انهمرت القذائف على الأنساق المعادية المتقدمة، وغطت سماء المعركة سحب من الدخان والغبار، غير أن الدبابات المهاجمة حاولت على الرغم من ذلك اختراق ستارة النيران والتقدم إلى الأمام، وحاول الإسرائيليون الالتفاف حول قواتنا عن طريق الوديان، إلا أن المقاتلين المغاوير قاموا بمناورة سريعة ووجهوا إليهم ضربة مميتة.
أصبحت المعركة صعبة ودموية بالنسبة للمدافعين عن المرصد، فالقصف الجوي الثقيل، ورمايات المدفعية المتواصلة، وتزايد هجوم القوات الإسرائيلية، والتفوق العددي الكبير، كل هذا جعل القتال أكثر عنفاً وضراوة مما كان عليه، وعلى طول الخطوط الدفاعية، كان يسمع دوي الرشاشات، وقصف مدافع الهاون وأزيز الرصاص، ولقد أثارت هذه الاستماتة في المقاومة حنق القادة الإسرائيليين، الذين كانوا يقودون الهجوم على المرصد، فلم يكونوا يتوقعون مثل هذا الصمود، كان الدخان والغبار يجففان أفواه المقاتلين.
وكانوا يعانون في دفاعهم عن المرصد أشد التجارب قسوة وصعوبة، وكان الظمأ أقسى تجربة مرّوا بها منذ بداية الحرب وعلى الرغم من هذا، كان المقاتلون يحصلون على الماء من قتلى الأعداء أنفسهم.
كانت هذه المعركة الدفاعية قاسية لما تميزت به من طابع العنف والاستماتة، كان المقاتلون يحاربون في ظروف الجوع والإنهاك، ويقاومون العدو في غضب وشجاعة، وحتى أولئك الذين جرحوا أكثر من مرة لم يلقوا السلاح، بل ظلوا يواصلون القتال، وعلى الرغم من أن قائد الموقع قد جرح خلال القتال، فقد قام بتضميد جراحه بنفسه دون أن يعلم أي مقاتل بذلك، وفي هذا القتال الدامي وجد المقاتلون المغاوير قوة هائلة في أنفسهم لخوض معركة غير متكافئة، استمرت حتى الساعة 16,45 يوم 21 تشرين الأول، مستخدمين القنابل اليدوية والأسلحة الفردية والجماعية، قاتلين وجارحين عدداً لا يستهان به من الإسرائيليين، ولقد أرغموا العدو للمرة الثانية على التراجع، بعد أن أوقعوا الارتباك في صفوفه.
ولم يمض وقت طويل حتى شن العدو هجومه للمرة الثالثة زاجاً في المعركة بقوى جديدة، فجأة تحولت المرتفعات والتباب المحيطة بالمرصد إلى خط ناري هادر، وعادت مدفعيته تصب قذائفها على المواقع الدفاعية وقد ملأ الدخان والغبار المرتفعات والتباب المحيطة بالمرصد.
نشبت في المواقع الدفاعية الالتحامات المباشرة بالسلاح الأبيض والقنابل اليدوية بين المعتدين الإسرائيليين والمقاتلين السوريين، وارتفع هنا وهناك دوي الانفجارات العنيفة، وصمد المقاتلون المغاوير أبطالاً يواصلون القتال بضراوة، ويحاربون بعنف وهم يفكرون في الوطن، وفي إخوانهم الذين ضحوا بأرواحهم.
إن مأثرة هؤلاء المقاتلين المغاوير مثل من أمثلة الإخلاص والوفاء اللذين أبداهما المقاتلون العرب تجاه الأمة والوطن، ولن ينسى رفاق السلاح الشهيد الرقيب الأول منير عيسى الذي استشهد وهو يؤدي الواجب العسكري في أشرف معركة دفاعية بطولية، والشهيد المجند محمد نور المنجد، الذي كان صائماً، وكان يردد «ما أحلى الشهادة في رمضان» والشهيد العريف نايف كنعان، وغيرهم من الشهداء، الذين سجلوا بدمائهم صفحة رائعة من صفحات التضحية والفداء، لقد سقط المرصد بيد العدو في الساعة الثامنة والنصف من صباح 22/10/1973 بعد أن تكبد العدو ما يقارب ألف وخمسمئة إصابة بين قتيل وجريح «600 قتيل، و900 جريح»، وبعد أن نفدت الذخيرة من أيدي الرجال الذين استهلكوا خمس وحدات نارية في أقل من أربع وعشرين ساعة، أما خسائرنا فكانت 76 شهيداً و123 جريحاً و73 أسيراً.