والموقف الذي نشير إليه الآن قد يمرّ على البعض مرور الكرام ولكنه لم يمرّ علينا هكذا لأنه اختصر في مضمونه ونتيجته الكثير مما تربّينا عليه ولم يخلُ من وجع يحضر بين الحين والآخر، وإذ نسوق مثل هذا الموقف فلأننا واثقون إنه يشبهنا..
سمعتُ مكرهاً في مكان ما (قاعة انتظار) حديثاً دار بين فتاتين إحداهما سورية والأخرى فيلبينية لكنها تتحدث اللغة العربية بطلاقة ، وملخّص الحديث هو أن الفتاة السورية تحاول إقناع الفيلبينية بعدم السفر إلى بلادها لكن الأخيرة مصرّة على هذه العودة وإنها اشتاقت لأمها التي لم ترَها منذ عشر سنوات، وحاولت الفتاة السورية ترغيب الفيلبينية بالراتب الكبير الذي تتقاضاه من الأسرة التي تعمل لديها مؤكدة لها أن الـ /300/ دولار التي تقبضها حلم أي شاب أو فتاة ، وليس هنا بيت القصيد وإنما ردّ الفتاة الفيلبينية التي بدت مثقفة وناضجة تماماً والتي دخلتُ لاحقاً على خط حديثها ؛ وأختصر هنا ما أعتبره «عبرة ونصيحة» من كلام هذه « الشغّالة» مع كل الاحترام لها حيث قالت: الكثير من الفتيات السوريات لا يقبلن بهذا العمل ويفضّلن شرب المتة وقضاء نصف الوقت أمام المرآة على الكثير من الأعمال..
كلامها فيه الكثير من الواقعية، لكن ثمة ما نودّ قوله قبل تقبل كلامها على محمل الجد وهو أن العمل في البيوت والمنازل أمر مرفوض لدى النسبة الغالبة من السوريين لاعتبارات كثيرة مع أنه نوع من العمل الذي « لا يخجّل» شرط أن يكون منظماً وهناك من يضمن حقّ مزاولته ، فبالنهاية هو كأي عمل ، وقبل أن يسألني أي شخص إن كنتُ أقبل لابنتي أو أختي أن تمارس هذا العمل أسرع بالقول: أنا فرد من مجتمع أعيش كل تقاليده وعاداته وإن كنتُ غير مقتنع بالكثير منها، أي إن الموضوع متعلق بالثقافة المجتمعية وبالأحكام السطحية على الكثير من الأمور ، فدائماً الطبيب هو من يرفع رأس العائلة أمام الفلاح فيقولون له: «الشغل مو عيب»!
في مناسبة أخرى اعترضتني إحدى الفتيات طالبةً المساعدة وهي خريجة كلية الفنون الجميلة منذ عدة سنوات ولم تجد حتى الآن وظيفة حكومية!
المشكلة هنا في فهم الشباب لماهية العمل ولقيمة العمل والذي يُعتبَر من وجهة نظر الكثيرين مجرد «وظيفة حكومية» فإن لم تتوفّر كثرت الشكوى من البطالة!
ما يجب على العديد من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية هو أن تعمل على تغيير هذه النظرة وأن تكرّس قناعة لدى الشباب أن الدولة - أي دولة - عاجزة عن تأمين فرص العمل لجميع أبنائها، وبالتوازي مع هذا الجهد عليها أن تضغط على الدولة لتشجيع العمل خارج إطار الوظيفة بعيداً عن الوسائل التقليدية التي استخدمتها حتى الآن ولم تحقق الغاية المرجوة منها..
في هذه الأيام يتهافت أبناؤنا الناجحون في البكالوريا على مراكز التقدّم للمفاضلة العامة، وبحكم عملنا الإعلامي يقصدنا الكثيرون من الأقارب والمعارف والأصدقاء يسألون عن الفروع الأكثر ضماناً لوظيفة وعن المعاهد الملتزمة وعن الأقسام التي يجد خريجوها فرصة عمل و...
لا ننكر الجهود الكبيرة التي بذلتها وتبذلها الدولة في هذا الإطار، أو حرصها المتزايد على استيعاب الجميع في الجامعات والمعاهد والمشاريع الرائدة من حيث المضمون التي أوجدتها لكنها - أي هذه المشاريع - غير قادرة على استيعاب الجميع..
مهما حاولنا، في ظل ما نكتنز من ثقافة ووجهات نظر، لن نستطيع تغيير القناعات بسهولة، ولن نستطيع في المستقبل ما لم ترافق الكلام النظري حقائق ومعطيات على الأرض، فعندما يجد هذا الشاب أن الزراعة على سبيل المثال نقلت من حال إلى حال أفضل نستطيع أن نقنعه بالعمل في أرضه، أما وهو يرى هذا المزارع يتقلّب على نار القلق وعدم الاستقرار في كل ما يخصّه فإنه سيسعى لوظيفة بعشرة آلاف ليرة شهرياً ولو كانت أرضه ستدرّ عليه أضعاف هذا المبلغ على مبدأ «الوظيفة أضمن»!