إن أقطاب السياسة العالمية يشكلون حجر الزاوية في التحولات الاقتصادية الكبرى.
فالعالم الذي كان يخطط لانفراج في مسألة الغذاء ومكافحة الفقر ويعد العدة عبر اللقاءات الدولية والشعارات التي أطلقتها المنظمات الانسانية عموماً, بات اليوم أكثر قلقاً على مصير البشرية عموماً أمام التحديات الكبرى التي برزت في عالم الغذاء.
هنا يبرز سؤال يثير الدهشة وسط أمواج القلق العاصفة التي يطلقها فقراء العالم الذين صاروا أكثر قرباً من قاع الفقر والجوع والعوز أثر انطلاق مايسمى بجنون الأسعار العالمية للمواد الغذائية الرئيسية حيث شكلت أزمة ارتفاع أسعار النفط العالمي مراجعة سريعة لحسابات مصدري هذه المادة ومنتجيها, للتحول العاجل إلى البدائل المتاحة فكان الوقود الحيوي العاصفة أو الأعصار الأشد تدميراً على موارد الغذاء لدرجة أن هذا التحول حمل معه الكثير من التحليلات حول دور السياسة في اختراع هذه المشكلة وخاصة أن المنتجين الكبار لم يدركوا بعد ماذا يعني جنون سعر برميل النفط الذي قارب /150/دولاراً مرشحة للزيادة حتى عتبة 200 دولار للبرميل الواحد.
ولم يدركوا ماالذي تغيرعلى الأرض حتى حدث هذا الجنون في وقت عجزت فيه مختبرات الاقتصاد العالمية عن تفسير الظاهرة بعيداً عن أصابع السياسة التي وجدت في هذه المسألة نوعاً أكثر حدة ,من سيطرة الجيوش والاستعمار المنظم الذي يجعل الانسان رهينة لشروط اللاعبين الكبار.
العالم هنا تحرك بالتأكيد حيث ارتفعت الأصوات التي أطلقتها المنظمات الدولية لتقول شيئاً واحداً ,علينا مواجهة مايجري ! ولكن ماذا عن ماهية هذه المواجهة?!.
إنها بالتأكيد قبول بالأمر الواقع وبعض الاستنكار والشجب دون الدخول بأسباب الظاهرة.
فليس سهلاً أن تتحول البلاد المنتجة للرز إلى كبار المستهلكين الباحثين عن مصادر لشراء مئات آلاف الأطنان لسد حاجة مواطنيهم ومثلها الذرة بأنواعها وغيرها من المواد الغذائية.
وليس عادياً أن تشهد دول مثل الصين (العملاق النائم) ماتشهده من تحولات نحو التصنيع باتجاه مايسمى بالنهوض المنتظر لتعود إلى الواجهة.
بالمقابل هناك من لم يكتف بشجب الظاهرة أو الاشارة إليها بل ,أطلق سهام الانتقادات إلى الشعوب التي وجدوا أنها بدأت تغير أنماطها الغذائىة من وجبة واحدة إلى عدة وجبات في اليوم ما ضاعف الطلب عشرات المرات على المواد الغذائية.
المنتجون للنفط الخام الذين استفاقوا على عائدات هائلة مثلتها الزيادات الجنونية في أسعار البرميل الخام من أقل من 50 دولاراً إلى حدود /150/دولاراً دفعة واحدة فسارعوا إلى قطف ثمار هذه الفورة المستهجنة في أسعار النفط وبدأت أصواتهم ترتفع تدريجياً وسط تحذيرات الأوبك ممايجري ..لكن المدهش أن التفكير بزيادة الانتاج خارج الحصص المقررة بالمنظمة لم يقابل بالاستهجان فقط فالسياسة تدخلت مرة أخرى لتضيق الخناق على المنتجين وسارعت لبسط سلطتها وشروطها القاسية فهي في كل الأحوال المستفيد الأكبر مما يجري.
المحللون ربطوا المسألة برمتها بالعجز الكبير الذي يعانيه الميزان التجاري الأمريكي ودافعو الضرائب الأمريكيين صاروا يتطلعون إلى سياسات اقتصادية أكثر انفراجاً وربطوا هذا الانتظار بالسباق نحو البيت الأبيض الذي يزداد سخونة مع اقتراب موعد الانتخابات النهائية بين المرشحين الديموقراطي أوباما والجمهوري ماكين.
وهذه في حد ذاتها خدعة كبرى تهدف لصرف النظر عما يجري في المناطق الساخنة من العالم ومن الإخفاقات السياسية الأمريكية التي بلغت أقصى حدودها ..لكن ثمة ما نقرأه نحن العرب في تفسير مايجري وخاصة أن هذه الارتفاعات الجنونية في الأسعار قابلها انخفاض لافت في سعر الدولار أمام بقية العملات مثل اليورو والين والدول التي تعتمد هذه العملات لاتخفي قلقها من انصراف القيم المالية باتجاه الدولار على حساب عملاتهم ولم يخفوا خشيتهم من تحول التجارة العالمية إلى هذا الاتجاه.
فالدول المتأثرة بالسياسات الأميركية محكومة بالأوجاع وبإيجاد المخارج والتفسيرات وردم الهوة التي يحدثها فوران الأسعار العالمية.. فمؤتمر جدة للدول المنتجة للنفط قالها صراحة إننا أمام مواجهة صعبة تقتضي الكثير من التأني قبل اتخاذ القرارات المصيرية ,هذه القرارات التي لن تكون بعيدة عن خدمة التوجهات السياسية الكبرى في عالم يشهد الكثير من قضايا الرشوة والفساد والفضائح الكبرى.. ويشهد أيضاً محاولات نهب منظم لخيرات الشعوب المنتجة أو الخاضعة لسلطات السياسة الأمريكية ومؤثراتها في المنطقة والعالم.. فالعراق يدفع يومياً فاتورة كبيرة من عائداته النفطية المرتهنة لتلك السياسات.
والجائعون المتزايدون في العالم يبحثون عن حلول والأساتذة الكبار يفكرون ويتخذون القرارات ويرصدون نسباً لاتذكر من عائدات الأزمة لمواجهة بعيدة المدى لأسعار الغذاء في العالم..
فهل تحولت المشكلة إلى البحث عن شكل جديد للمواجهة أم في القبول فيما تفرضه رغبات السياسين وأهواؤهم على المستضعفين أو المغلوبين على أمرهم على امتداد كرة الأرض أسئلة كثيرة تدعونا إلى التفكير الجدي وإلى تسخير السواعد والهمم ,لأن المسألة تتعلق أولاً وأخيراً بوجودنا جميعاً و الصراع لن يغلق أبوابه بسهولة.
فهل يتنبه العالم إلى مايفعله السياسيون .. وهل يصحو من غط في نوم عميق وسط هدايا وجوائز لاتشكل جزءا قليلاً من قيمة مايخسره العالم يومياً لحساب الساسة والسياسيين.
وإلى متى تستمر هذه الحالة المكشوفة على مافيها من غموض للكثيرين الذين يبدو أنهم لايشغلون أنفسهم في التفكير فيها وبأسبابها لأن لهم أسبابهم بالتأكيد..??