رغم ما تشهده تلك المعاهدة من معارضة شديدة محلية وإقليمية.
والآن, رغم خسائرها البشرية, وقد بلغت حتى الآن /4100/ قتيل وأكثر من /30/ ألف جريح, والمادية البالغة /1000/ مليار دولار, بالإضافة إلى ما لحق بصورتها من تشويه, لم تدرك واشنطن أن الاحتلال هو سبب كل المصائب, ولا أحد ينكر أن غزو العراق عام 2003 يعتبر أحد أخطر جرائم العصر.
والنظر في البقاء في هذه الدولة بعد تلك الكارثة الفظيعة التي لحقت بها والتي نسفت استقلالها وسيادتها ليس معناه استمرار الجريمة فحسب, بل يشكل أيضاً خطأً استراتيجياً جسيماً, تدفع ثمنه غالياً واشنطن وتابعوها في العراق.
ولم تخطىء شكوكنا, فقد تأكد أن إدارة الرئيس بوش تبحث في فرض سياستها على خليفتها, وتجعل من الصعب, إن لم يكن من المستحيل على مرشح مثل باراك-أوباما سحب القوات الاميركية من العراق كما وعد.
ومن خلال سعيها إلى التوقيع على (معاهدة خاصة بوضع القوات) وتسمى اختصاراً sofa لغاية نهاية شهر تموز, فقد جعلتها محل الغطاء الشرعي للأمم المتحدة على وجودها في العراق, والمنتهي في /31/ كانون الثاني المقبل... والاحتمال الآخر, عند انتهاء الولاية الأممية لوجودها, أن تطالب واشنطن بتفويض أممي آخر لها يمتد لغاية ستة أشهر من أجل إتاحة الفرصة للرئيس الأميركي المقبل لتقدير الوضع عام ,2009 واتخاذ القرار المناسب.
وقد كشفت عن بنود تلك الاتفاقية التي يجري التفاوض عليها بشكل سري بين واشنطن وبغداد, صحيفة الاندبندنت البريطانية, وتنص على إنشاء خمسين قاعدة أميركية في العراق طويلة الأمد, وللولايات المتحدة الأميركية حرية التصرف في شن عمليات عسكرية وتوقيف من تراه ضمن إطار (حربها على الإرهاب), من دون الرجوع إلى الحكومة العراقية, ولا يسري القانون العراقي على القوات والشركات الأميركية, وكذلك تسيطر أميركا على الأجواء العراقية حتى ارتفاع /19/ ألف قدم.
وقد أثارت سترة النجاة تلك القوات استعمارية جديدة معارضة سياسية ودينية شديدة في العراق.
ونلمس مدى ابتعاد الإدارة الأميركية عن الواقع حين نقرأ ما كتبته كونداليزا رايس, وزيرة الخارجية, في العدد الأخير من مجلة فورين أفيرز, تقول فيه (يرتبط مشروع دمقرطة العراق والشرق الأوسط ببعضهما البعض, وقد بدأ العراق يشعر أنه بدأ يتخلص من مشكلاته, وأثر ذلك التحول سوف تشعر به المنطقة برمتها. وتضمن شراكتنا الطويلة الأمد مع أفغانستان, وشراكتنا مع العراق التي ينبغي أن نتمسك بها, وكذلك علاقتنا الجيدة مع آسيا الوسطى, وشراكتنا مع دول الخليج قاعدة جيواستراتيجية متينة لمساعي الأجيال القادمة في إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط لتنعم بمزيد من الديمقراطية والرفاهية).
وهنا نتساءل هل نضحك أم نبكي حين قراءة هكذا رأي? فالعراقيون لا يريدون أن تفرض عليهم الديمقراطية بالقوة الأميركية, والأفغان لا يريدون نموذجاً غربياً لمجتمع يفرض عليهم أيضاًَ, وصدى مادعته (تحول) العراق - أي تدميره - قد زعزع استقرار كامل المنطقة.
وبعض دول المنطقة تشعر بحاجتها إلى الحماية العسكرية الأميركية, ولكن العديد منها ترفضها.
والرفاهية العربية في الوقت الحالي لا يعود الفضل فيها إلى الوجود العسكري الأميركي, وإنما إلى البترول والنبوغ التجاري للعرب.
ويبدو أن رايس لا تملك أدنى فكرة عن تاريخ النضال الطويل الذي خاضه الشعب العراقي للتخلص من الاحتلال الأجنبي, فالعراقيون ثاروا ضد الاحتلال البريطاني عام 1920 وسحقت ثورتهم,وفشلوا حين حاولوا التخلص من القواعد العسكرية البريطانية عام ,1940 وقد أعدم شنقاً الضباط الذين كانوا وراء تلك العملية.
لقد أدى تدمير العراق إلى نسف التوازن في منطقة الخليج, وجعل إيران قوة إقليمية, وليس من السهل العودة عن هذا الوضع, لأن إيران باتت لاعباً اقليمياً يتعذر الالتفاف عليها سواء طاب هذا الوضع للرئيس بوش ونائبه تشيني ورئيس وزراء تل أبيب أولمرت, أم لم يطب لهم. وجل ما تريده إيران هو حماية نفسها من ضربة أمريكية اسرائيلية محتملة, ويومياً توجه لها تهديدات بذلك, وهذا ما يفسر سعيها لامتلاك قدرات الردع.
ولاسيما أنها ما زالت تحتفظ بذكريات مريرة عن حرب الثمانية أعوام مع العراق, تلك الحرب التي أيدتها دول »الشرق الأوسط« كافة (عدا سورية).
إن إيران تبغي الاطمئنان من جهة العراق ودول الخليج بألا يسمحوا لأمريكا اتخاذ أراضيهم قاعدة لضربها, إنها تريد أن تعود القوات الأميركية إلى أراضيها.
و بدلاً من الانسياق وراء أوهام رايس (وقواعدها الجيواستراتيجية المتينة) الأفضل لواشنطن الانسحاب من العراق, وإقامة اتصالات دبلوماسية مع إيران, والالتزام بقناعة تامة بإجراء تسوية للصراع الإسرائيلي العربي قبل أن تنفجر تلك الدملة التي تسمم العلاقات في المنطقة في وجهها.