استقطبت الاميز من الملامح الواقعية كما الإنسانية والفنية،وجمعتها في شخصية مسرحية كان لها سماتها الخاصة في ظروفنا الحالية، إذ التصقت بالراهن من الأحداث، فنقلت تبعاته، وتعمقت بتداعياته،ووجهت إلى خطورته، وتعاملت بمسؤولية مطلقه اتجاه الواقع، والذي كان محركا للإبداع السوري، حيث تابع الأخير مسيرته رغم كل ما حصل، واكتسب طابع الالتزام في كل تفاصيله وكل أهدافه مجتمعة، وتحديدا عندما طرحت المأساة التي عاشها الإنسان السوري في الفترة الأخيرة، فبرزت عبره ميزة الواقعية،التي تؤكد أن الفن ليس مجرد مرآة للواقع فقط ، بل أنه يسبقه في أحيان كثيرة،خصوصا عندما يتقن صانعوه أدواتهم الإبداعية،ويدركون معضلات واقعهم ،كما هو إيمانهم العميق بمسؤوليتهم الإبداعية والوطنية.
من هنا فإن شخصيات تلك العروض تألقت في مقدرتها الفنية،لإيصال أوجه أخرى للأحداث، وأبعد من الواقع، فهي ذاتها عاشت المأساة، واستحضرت وقائع حقيقية، و هي من كابدت الفقدان والموت، وعاشت الهم الوطني والمخاوف على الوطن، فاستطاعت أن تجسد حالات و حقائق ـ وثائق، فنقلتها إلى المسرح بتوليفة منضبة، فاختارت أكثر ما اختارت الجانب الإنساني.
وأكثر ما ميز تلك العروض مشاركة الشخصيات في التأليف والمشاركة بإضافة تجارب واقعية، فلم يكن عرض (إيمتى رح يطلع الضو) إخراج (حسام الشاه) أولها، حيث قامت مجموعة من الأمهات السوريات بتأليف نص العرض،بعد ورشة عمل بإشراف المخرج، وجميع المقترحات و الحكايا كانت مأخوذة من مشاهد حياتية، عاشتها الأسرة السورية و الوطن ككل،ثم كان الأداء المسرحي،والذي أذهل المتلقين وقتها،وذلك بسبب اجتزاء الأحداث والأفعال والحالات من الواقع.
لم يكن عرض (في بار شارع الحمرا)إنتاج وزارة الثقافة ـ مديرية المسارح والموسيقى ـ المسرح القومي هو آخر العروض التي أكدت تمسك الإنسان السوري بوطنه حبا وإبداعا وعملا، فالإبداع السوري الملتزم عودنا دوما على النوعية في إنجازه.
شخصيات العرض عاشت عالمها المسرحي، كأنها هي ذاتها في واقعها الأساسي، وقد تجلى في العرض المأساة الجماعية، التي يعيشها المجتمع السوري،من جراء الأحداث الأخيرة، فلم يبذل الممثلون جهدا كبيرا لتجسيد تلك الأحاسيس والمشاعر، ولإيصالها، وقد عاشوا في خضم الحدث المؤلم، وما حمله من تبعات كثيرة،حملت الفظائع للجميع، حيث تماثل الممثل ـ الإنسان مع جمهوره ـ المتلقي، وجسدوا حالة واحدة، في الواقع كما في العرض، وساعد ديكور العرض وحركة الممثلين في هذا الجانب، فكان الجميع كمن يعزف ترنيمة رثاء إنسانية مؤلمة، لكنها ترنيمة معجونة بحب الوطن، و الحزن على إنسانه، حيث لم تخطر على باله يوما وقوع تلك الكوارث الصادمة و المفاجئة للإنسان السوري، من هنا تميز الاعتماد على آلية فنية خاصة، حيث شارك الجميع في صياغتها،وساهم الارتجال الجماعي في إبداعها، كما أكد المشاركون في العمل عبر أكثر من لقاء لهم، فلم تكن تلك المساهمة الإبداعية مجرد تقنية درامية اعتمدها صناع العمل، وإنما حلقت فنيا ودراميا، فبدت التفاصيل أمامنا ألما،لم نكن قادرين حياله على التميز بين الواقع والفن الذي ينقله، خصوصا أنها تبلورت كما هي، و برزت تلك المعايشة الواقعية، المنغمسة بصميم واقع مؤلم،أبدعت في تجلياتها، فتمكنت من إيصال كل أبعادها النفسية و العاطفية و التفاعلية، فهي تبعات واقع محزن، عاش الممثلون آلامه أصلا، قبل أن يحاولوا تجسيده و تنسيقه عبر آليات درامية، لم تتمكن الإنعتاق أو الإفلات ولو لحظات من تلك الأوجاع الهائلة،والتي لم ترحم أحدا، خصوصا أن العمل و أجواءه تجري في أجواء الغربة الإجبارية، فاختلطت الأحزان بالحنين الدائم، ونقلت أوجاعا لا يستوعبها عالم بأكمله مهما اتسع، فظهرت عبر كل حدث و حوار وتفصيل وعلاقة في العرض، ففي بار في بيروت يجتمع مجموعة من الشبان السوريين،بعيدين عن الوطن،لكنه يسكن عبرهم في كل شيء، يلتقون في ذلك البار في شارع الحمرا، يتسابقون ويتنافسون في تظهير مأساتهم ، تلك التي تنتقل بين مستويات عديدة،بدء من دواخلهم الشخصية إلى مستويات تفاعلهم، ثم بوحهم عن معاناتهم الفردية كما معاناتهم الجماعية،وذلك عبر(ثيمة)أتاحت لشخصيات العرض البوح عن حنين للوطن،يتجلى بأشكال عديدة،منها ماكان مباشرا،مثلما عبًر(يزن خليل)واعترف كيف يسافر في أحلامه إلى شوارع الوطن،ويزورها يوميا دون أن ينسى أي مكان عرفه في بلده ـ الأم،ومنها حمل الحب الكبير إلى جنب الحرمان الكبير،مثل (جلال)الذي يقع في الحب بشكل جنوني ولا يستطيع البوح،فكل منهم شكا غربته وحنينه بشكل منفرد، لكنهم جميعهم منحازون لا لشيء إلا للإنسان وللوطن، وكل ذلك تعميق لمقولة العرض، التي تصور حالة واحدة، هي هول ما عاشه السوريون في الفترة الأخيرة، لكن تلك الحالة لم تستطع أن تفقدهم بوصلتهم الإنسانية،على الرغم من كل ما حدث، فتمسكوا بتلك البوصلة،تلك التي تحافظ على إنسانيتهم، و توصلهم إلى بر الأمان، فكان الأمل حاضرا لاسيما من خلال التمسك بالمبادئ و القيم الإنسانية الكفيلة بانتشالهم، وحفظ كرامة السوري، و رأوا لابد من التمسك بالحوار، ورفض العنف وإعمال العقل، فالسوري لم ولن يفقد بوصلته الحقيقة، مهما عانى أو كابد من مآس،بل خرجت الحكمة عنده من مخاض الآلام،وكان الواقع في ذلك خير دليل رغم الأوجاع والموت والأحزان،وبقي صامدا،يحمل الحب والأمل والإبداع.
عرض(في بار في شارع الحمرا): تأليف وإخراج كفاح الخوص ،درماتورج (المهند حيدر)أما الممثلون هم (علي صطوف)يزن خليل أسامة التيناوي أيمن عبد السلام (جفرا يونس) الإضاءة (نصر سفر) الديكور (حسن الشيخ صالح)