و ما إن وطأت أقدامهم الصغيرة منزلهم حتى بدت الشماتة من أحلام الأهل ، و لم يستطيعوا أن يخفوا فرحتهم و كانت عبارتهم “ ألم نقل لكم بأن الشام أحلى “ مستفزة لمن حزم الحقائب ..
رغم خيبة الأمل لم يستسلموا لفوضى حجوزات الطيران مع كثرة المسافرين ، و كانت فكرة السفر قد استحوذت على عقولهم .. و حاولوا من جديد في رحلة المخاطر إلى المطار و التي قد تساوي مشقة الرحلة التالية وسط البحار ، لم يجدوا غضاضة في دفع المعلوم كي يحظوا بمقاعدهم الأربعة على متن الطائرة بموعد مستعجل ، خاصة بعد ازدياد المخاوف من ضربة أميركية و كيماوية و إمارات إسلامية ..
طالبو لجوء
على شواطئ الإسكندرية سلموا أجسادهم لمهربي البضاعة البشرية الهاربة كمهاجرين غير شرعيين .. و في قوارب الموت ألقوا أرواحاً بلا أمتعة و إلى مرارة الغربة مضوا ، و قبل أن يمتطوا أجنحة النوارس خلعوا وطناً على الشواطئ و خرجوا من جلدهم و غيروا لونهم و لسانهم ، أمواج البحر المتلاطمة تقاذفتهم و حملت أوراق سفرهم و نثرت صور وجوه تائهة بين موجة حانية تشفق على حالهم و بين موجة قاسية تؤنبهم و تدعوهم للعودة من حيث أتوا و إلا !! حارت نظرات أطفالهم المتسائلة رغم الحداثة .. لماذا الرحيل .. و هل هناك بلد و دار أجمل من شامة الدنيا ، سحبوا أيديهم الصغيرة المتشبثة من يد وطن عاشق لأبنائه .. ذرفوا دموعهم كطقس تقليدي للرحيل و غادروا .. ذكريات الأماكن غاصت عميقاً إلى القاع صرخت طلباً للنجدة و الانتشال من خوف بشري يهرب من موت و يتبعه ..
لا تسألهم إلى أن تمضي بهم قوارب الفرار من الأقدار .. إلى المجهول أم إلى النسيان و الهروب من الذات ، من وطن الأمان و تشريع النوافذ و الأبواب على قاسيون و الغوطتين و بردى ، إلى ضباب مدن لا تعرف صلة الأرحام و لا الحنين و الاشتياق و التعلق بأشياء و هواء ..
الثمن .. روح أو تحويشة عمر
الهجرة ثم الهجرة و لو كلفت الملايين .. عجباً لحالهم .. فيما مضى كانوا يتعلقون بذيول وطن .. و يتمرغون في أمانه و يستنشقون هواءه .. و الآن يتسابقون في الهروب و الجري إلى السفارات و الاستجداء لفيزا و لو في بلاد الواق واق أو إلى أحد الأقطاب المتجمدة شمالاً أو جنوباً بحثاً عن مزاد لشراء وطن و فرصة عمل .. المهم أن يخرسوا أصوات الانفجارات و دوي القصف و يصموا آذانهم عن تأوهات موجوعة لوطن و يستسلموا لنوم عميق على فراش غريب .. في بلاد الاغتراب لن يسمعوا نشرات الأخبار قبل ارتشاف فنجان قهوتهم الصباحية و مع كل وجبة طعام .. و ربما لن تستهويهم السيدة فيروز في أغنية ردني إلى بلادي .. بينما هم دفعوا تحويشة العمر لاجتياز الحدود و البحار ليصلوا إلى أوروبا ليلامسوا غيومها التي ستغتال ليلهم و نهارهم إلى درجة الاكتئاب و الانتحار ..
أجساد كثيرة كانت الشواطئ الغريبة مقابر لها بلا شواهد و لا أسماء و لا زوار تحت يافطة مقابر الغرباء .. و الأرواح بقيت تعانق أمواج البحار .. و النوارس تردد رجع أصوات غرقى تحت جنح الظلام يستنجدون من ينتشلهم من اهتزاز قوارب الصيادين المهترئة و التعلق كاللصوص بالبواخر العابرة باتجاه شواطئ إيطاليا حيث بداية الأحلام و التجرد من الأوطان ..
بينما قصص السفر المؤقت أو الهجرة الجماعية الدائمة تحتل حيزاً من أحاديثنا عن قريب أو صديق أو جار مهاجر ، هناك من لا يتخيل نفسه خارج وطنه مهما ساءت الظروف و بلغ حجم المغريات خارجه .. كان أحدهم يحدث آخراً على قارعة الطريق و قد بدا الانفعال مسيطراً عليه , استوقفني .. كان يحلف بأغلظ الأيمان بأن وقوفه تحت منهل للمياه و الشرب منها و لو كانت غير نظيفة كما ينبغي ، تساوي أوروبا بما و بمن فيها ..
وطن للشراء
من عبروا إلى الضفة الأخرى حيث سواحل أوروبا ستكتب لهم ولادة جديدة بعد النجاة من موت محتمل وسط أمواج لا ترحم أجساداً مرتجفة .. سيشترون وطناً على مزاجهم و مقاسهم .. وسيلبسون ثياباً لا تشبههم .. سيغيرون أفكارهم عن صفات وطن مثالي بلا منغصات و لا ربيع عربي و ويلاته .. و سيكونون مواطنين لوطن مستعار بلا لون و لا جذور و لا انتماء .. ربما سيتذكروننا من وقت لآخر في الإجازة السنوية و يأتون كسياح مغتربين ليسألوا عمن بقي من بشر و حجر و أثر .. سنكون نحن هنا على نقطة ما من خارطتنا السورية .. سنذكرهم بيوم أزمة ، و نحدثهم عن أبطال صارعوا على عتبات الحياة للبقاء و نالوا شرف مواطنين لوطن يستحق العناق بالأرواح .. سنذكرهم بجبنهم و إحباطهم و يأسهم و نقول لهم .. ها نحن ما زلنا على قيد الحياة و إن لم نكن أحياء فها نحن غصنا في رحم وطن الشهداء .. أما أنتم فقد خذلكم خوفكم و جبنكم و عدم إيمانكم من استحالة سقوط وطن ..