المكتسبة(الإيدز) حيث دأبت على التعريف به والتنبيه من مخاطره والتشديد على حماية الإنسان من كل الوسائل التي قد تشارك في نقل المرض أو حتى الاشتباه في مقدرتها على ذلك,في محاولة دؤوبة لتجنب عدواه بشتى الطرق,وها هي منظمات الصحة العالمية تنفق ملايين الدولارات على التجارب التي تسعى لإيجاد علاج ناجع,رغم العجز المتواصل عن إيجاد مثل ذلك العلاج.
والذعر الذي تسببه كلمة إيدز أكبر من أن يوصف ولا يقف عند المصاب وأهله والمحيطين به وحسب بل يمتد ليطال البلد الذي تكتشف فيه حالات الإيدز برمته.
ومع الإقرار بخطورة المرض وتأثيره النفسي والاجتماعي والصحي,إلا أن ثمة مرضا عضالا مشابها ولكنه أكثر خطرا,يستحق الاهتمام والتنبيه والتحذير أكثر,ذلك هو الإيدز الروحي المتمثل بالنفاق الاجتماعي الذي أخذ ينتشر بشكل ملحوظ في مجتمعاتنا,وهو من إنتاج محلي صرف لا نستطيع عزو أسبابه إلى حضارة أخرى أو مصدر غيرنا ...كما أنه داء يكاد يتطابق مع داء الإيدز في كل مسبباته وعوامله ونتائجه بخلاف أن وقع تأثيره أشد وأبقى...
إن كل المحاولات التي تنبه وتحذر من مرض الإيدز أنما تسعى لإنقاذ الإنسان لجسد ووجود فيزيقي وما يرتبط بذلك من المعاني الأخلاقية غير المجمع عليها بالضرورة عند كل المجتمعات بتبايناتها الأخلاقية,والواقع أنه حان الوقت للتركيز على الإيدز الروحي الذي يدمر الروح وهي أساس الوجود الحضاري وجوهر الحياة برمتها...
والإيدز الروحي أو النفاق تماما كما الإيدز,هو مرض فقدان المناعة على المستوى القيمي وذلك حين يسهل اختراق الروح وتجريدها من مقومات النبض الإنساني وتوسيع دائرة الشلل فيها وإذا كان الإيدز الجسدي يسهل اكتشافه عبر تحليل الدم,فإن الإيدز الفكري قد يخادع طويلا لأننا لا نمتلك أجهزة لتحليل الروح,ومع ذلك فما أسهل اكتشاف خراب الروح ودمارها...
إن المشابهة في الإصابة بين الإيدز الجسدي والروحي تصل إلى حدود التطابق من حيث المسببات والمكونات والنتائج,فالإصابة بهذا المرض-كما تؤكد المصادر الطبية- تعزى إلى واحد من أسباب ثلاثة:الاتصال الجنسي بحامل المرض,أو الشذوذ,أو العدوى عن طريق الدم سواء بنقله من مصاب إلى سليم أو طرق أخرى باتت معلومة,وهي ذات المسببات لمرض الإيدز الفكري بخلاف تغير مواقع الإصابة. فالعلاقات المشبوهة على مستوى التواصل الإنساني,والشذوذ القيمي وفساد الفكر هي من العلامات الفارقة التي تساعد على اكتشاف الإصابة وتأكيدها وما أسهل العدوى حينئذ...
إن مجتمعا قائما على الزيف وعلى علاقات الرياء والنفاق والكذب وتملق أصحاب الشأن بل وتملق الصغار لمجرد التوهم بمقدرتهم على تحقيق منفعة ما يجعل من جسد المجتمع برمته يفقد مناعته المكتسبة عبر قرون من التربية والتحريض على القيم وغرس النبالة والرجولة لدى عناصره..
إن مجتمعا يعرف الحقيقة ولا يقولها بل يكون مستعدا لقلبها عن عمد وإدراك...إن مجتمعا كهذا لا بد آيل إلى الانهيار التام...ربما ينجو بعض أعضائه لفترة,تماما كمريض الإيدز الذي يتقن الملاكمة ثم لا يقوى على تحريك يده عند استفحال الإصابة...
أما الخلاف الوحيد ربما الذي يميز بين (الايدزين)فهو أن الإيدز الجسدي يبقى بالنهاية حالات فردية مهما كثرت ويستطيع الآخرون تجنب مسبباته للنجاة بأنفسهم,أما الإيدز,الروحي فيصعب كثيرا تحصين النفس منه,لأنه ينتقل عبر التعامل اليومي مع المحيط,ومن منا يستطيع عزل نفسه تماما,والبقاء دون عمل,ودون احتكاك بالناس وبمفاهيم المجتمع وأطر علاقاته أو الخروج عن منظومته...