عندما قامت وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية بزيارة غير مقررة سلفا الى موسكو في الخامس عشر من تشرين الأول ألقت الضوء مجددا على وكالة الطاقة الذرية واقعا وما يراد منها في المستقبل, فالإدارة الأميركية عندما أعلنت أنها تسعى لدفع روسيا للتخلي عن دعم إيران من أزمة الملف النووي, عبر المحاولة الفاشلة من كوندوليزا رايس لاقناع المسؤولين الروس بذلك, دفعت المراقبين الى طرح أسئلة مشروعة عن حقيقة أهداف الإدارة المهيمنة على القرار الدولي حول مصير وكالة تابعة للأمم المتحدة عاشت في الظل زمنا طويلا فقد برزت أزمة العراق في نهاية عقد الثمانينات, عندما قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف مفاعل تموز النووي العراقي, ثم بروز أزمة الملف النووي الإيراني منذ العام 2003 بعيد اتهامها بالسعي لإنتاج أسلحة نووية, وواكب ذلك كوميديا الملف النووي لكوريا الشمالية كل ذلك جعل من المناورات الأميركية في هذا المجال جزءا أساسيا من السياسة الأميركية العالمية بحيث طغت على كل نشاطاتها الرئيسية, واتخذت الوكالة الدولية حصان طروادة مكررا.
لقد أصبح من ثوابت التحركات الدبلوماسية الأميركية دفع المجهود الدولي باتجاه تسليط رقابة لصيقة على نمو التكنولوجيا النووية الإيرانية علماً أن عمرها يزيد على ثلاثة عقود من الزمن, منذ بدأت ألمانيا الاتحادية ببناء أول مفاعل نووي إيراني في منطقة بوشهر عام .1973
لم يكن الملف النووي الإيراني بعيداً عن أنظار الوكالة, ومعروف أنها قامت بالرقابة اللصيقة على المشروع النووي العراقي منذ العام ,1991 ثم الفترة الممتدة بين عامي 2000- 2003 قبيل احتلال العراق في 9 نيسان 2003 (سقوط بغداد) ورغم نصيحة رئيسها لمجلس الأمن بعدم التسرع في إصدار قرارات خاصة بتطبيق الفصل السابع من نظام الأمم المتحدة والخاص باستخدام القوة لتطبيق قراراتها, فإن أحداً لم يستمع إليه وتم احتلال العراق, حيث لم يفاجأ أحد بأن المشروع النووي العراقي كان قد انتهى منذ زمن بعيد.
الوضع بين إيران والوكالة يختلف جذرياً عنه مع العراق أو كوريا الشمالية, خاصة بعيد احتلال أفغانستان والعراق, فقد أصبحت المفاوضات حول (تحجيم) التقنية النووية الإيرانية جزءاً تقليدياً من نشرات الأخبار, فقامت الوكالة بدور مهم في تغذية الجانب الأوروبي المفاوض,, سواء بالمحرضات أو بالمهدئات على حد سواء.
ذروة التراجيديا في هذا الملف الإيراني مخطط لها أن تكون من مجلس الأمن, فبعد مرحلة طويلة من المفاوضات والتأجيل وتعليق تخصيب اليورانيوم من قبل إيران ثم العودة له هذا العام, ثم اجتماع المجلس العام للوكالة في جنيف لبحث الموضوع برمته (خاصة بعد إعلان إيران عن افتتاح مفاعل أصفهان وبدء عملية التخصيب) ثم التصويت على الموضوع الإيراني وإمكانية احتساب تجاوز إيران لالتزاماتها في هذا الشأن, ثم تأجيل البت بهذه المسألة حتى الرابع والعشرين من تشرين الثاني 2005 فإن الملف النووي الإيراني تجاوز في أهميته لدى الغرب كل مشكلات العالم الأخرى.
إنه من غير الطبيعي أن يكون هذا الملف جزءاً من مباحثات وزيرة خارجية الدولة الأعظم في كل بلد تزوره في سعي محموم لأخذ الموافقة الدولية على رفع المسألة برمتها إلى مجلس الأمن.
ورغم سيطرة الإدارة الأميركية على القرار الأوروبي في هذا المجال بدت الممانعة الروسية جديرة بالاعتبار, وهذا يعني ورغم عدم احتمال استخدام موسكو لحق النقض في مجلس الأمن لمنع صدور قرار إدانة أو عقوبات لإيران, إن التوجه الأميركي واضح بوضع إيران الإسلامية في دائرة الحصار والعقوبات لأهداف ليس لها علاقة بالملف النووي أصلاً.
فما أسباب السعي الأميركي الحثيث نحو هذا الهدف?
إن الإجابة على سؤال كهذا يتوضع لدى وكالة الطاقة الذرية برئاسة البرادعي, وهو يؤكد يومياً أيضاً التزامه الحياد, وتنفيذ قرارات مجلس الأمن والدفع باتجاه حل هذا النوع من المشكلات سلمياً لكن مجريات الأحداث تؤكد باستمرار أن الوكالة تتحول تدريجياً إلى سلاح بيد القوى العظمى ضد تقدم العالم الثالث في مجال التقنية النووية.
اجتماع الرابع والعشرين من تشرين الثاني لن يكون حاسماً على أية حال, ذلك أن وضع القضية أمام مجلس الأمن رغم السيطرة الأميركية الواضحة لن يمر بسهولة, فالعالم كله يقف مذعوراً أمام احتمالات حرب جديدة في منطقة الشرق الأوسط,لتأتي مسألة العقوبات المحتملة على دولة نفطية جديدة, مؤشراً على مأساة اقتصادية تضرب أوروبا أولاً وترفع أسعار النفط إلى أرقام فلكية ما يؤثر على التنمية في كل أرجاء العالم.
المحللون السياسيون الغربيون يؤكدون أن إيران أدارت اللعبة حتى الآن بكفاءة لافتة, فقد مضت سنتان منذ بدء المفاوضات جعلت من الملف حالة متداولة في الشارع العالمي كله, وأدت فيما أدت إليه ضمن عدد آخر من الأزمات الأميركية إلى هبوط مذهل في شعبية الرئيس بوش (39%) ما يجعله والمحافظين الجدد المحيطين به في وضع لا يسمح باتخاذ قرار الحرب ضد إيران أو أية قرارات جديدة ضد سورية أو دول أخرى في العالم كفنزويلا وغيرها.
وحتى في موضوع العزل عبر العقوبات التي يمكن أن يتخذها مجلس الأمن فإن أوروبا تحديداً وعبر تصريحات العديد من رؤساء دولها تقف ضد هذا النوع من الحرب البشرية التي تمس الفقراء وتدفع إلى مزيد من الهجرة إليها أو فقدان الأسواق التي يمكن أن تستهلك منتجاتها.
ولعل أبرز مؤشر على ذلك هو اعتراض رئيس وزراء بريطانيا توني بلير على التسرع في رفع الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن وفرض العقوبات قبل استهلاك كل فرص التفاوض مع إيران, وقد جاء ذلك بعيد محادثاته مع كوندوليزا رايس في السادس عشر من تشرين الأول من زيارتها غير المقررة مسبقاً إلى بريطانيا.
الزيارة الأوروبية الفاشلة لوزيرة الخارجية الأميركية خاصة في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني سواء في موسكو أو لندن جعلت من نتائج اجتماع وكالة الطاقة الذرية المقبل حالة مشابهة لما سبق من اجتماعات وصلت في النهاية إلى التعليق والمراوحة في المكان, هذا إذا أشرنا إلى المرونة الطارئة في مواقف الناطق الإيراني السيد محمد رضا أصفي حول استعداد إيران للتفاوض مجدداً والتلميح إلى إمكانية تعليق بعض الأنشطة التخصيبية لليورانيوم وليس كلهاعلى قاعدة هذا السعي المحموم للغرب باتجاه تصفية أو تحجيم التقدم التكنولوجي في مجال الطاقة الذرية, وغيرها من المجالات أيضاً, يتأكد دور هذه الوكالة كسلاح قانوني يتفرغ عن المنظمة الدولية لتحقيق هذا الهدف.
تأسست وكالة الطاقة الذرية عام 1957 تحت شعار العمل على تعجيل وتوسيع مساهمة الطاقة الذرية في السلام والصحة والازدهار في العالم أجمع كما تنص المادة 2 من النظام الأساسي, وهذا النظام ينص على أن تتألف الوكالة من مجلسين هما:
مجلس المحافظين ويتألف من 25 عضواً يضاف إليهم 17 من الدول الأكثر تقدماً في مجال الطاقة النووية, أما المؤتمر العام فيتألف من كل الأعضاء المنتسبين إلى الوكالة من مختلف دول العالم, وقد بلغ عددهم الآن 138 دولة, وتبلغ موازنتها السنوية 281430 دولاراً, تدفع من الدول الأعضاء والأمم المتحدة.
تعقد الوكالة مؤتمرا سنوياً في مقرها في عاصمة ا لنمسا( فيينا), وكان مؤتمرها الأخير التاسع والأربعون) في 26 أيلول 2005 حيث أعيد انتخاب الدكتور محمد برادعي بالإجماع مديراً عاماً لها, وذلك بعد أن مر ترشيحه بظروف اتسمت بعدم الاستقرار, خاصة بعيد تصويت مجلس المحافظين في مؤتمره الأخير بضرورة التزام إيران بتعهداتها وعدم اللجوء إلى تخصيب اليورانيوم لإنتاج الوقود النووي.
لهذا جاء حصول محمد البرادعي( العربي المسلم) على جائزة نوبل من جهة وانتخابه بالإجماع لإدارة الوكالة للسنوات الأربع القادمة من جهة أخرى أمراً مثيراً للتساؤلات حول هدف الغرب( أوروبا والولايات المتحدة الأميركية) من ذلك أن الهدف الرئيسي لهذه الوكالة وما يدفع دول العالم للانتساب لها هو مساعدة هذه الدول على امتلاك التقنية النووية للأغراض السلمية, ولكن تطورات الملف النووي الإيراني تحديداً سلط الضوء على الدور الخاص للوكالة تحت السيطرة الأوروبية والأميركية في منع الدول التي لاتحظى بالرضى الغربي من امتلاك هذه التقنية فالبرنامج ا لنووي الإيراني أقيم بتثنية ومساعدة ألمانية عام 1973 وانتسبت إيران إلى الوكالة عام 1974 وبعد قيام الثورة الإسلامية فيها عام 1979في العاشر من شباط ( موعد عودة الإمام الخميني إلى طهران) تخلت المانيا عن مشروعها ليكمله الاتحاد السوفييتي, ثم لتستمر روسيا في هذا العمل الذي يعتبر استثماراً مربحاً بمليارات الدولارات للدولة الروسية.
إن من المفيد القول إن وكالة الطاقة الذرية ومديرها العام سعى بمعونة أوروبية( ألمانيا, فرنسا, بريطانيا) إلى تحجيم التقنية النووية الإيرانية عبر رقابة لصيقة على عملية تخصيب اليورانيوم, ومحاولة إقناع إيران بالاكتفاء باستيراد الوقود النووي من الغرب لمفاعلات لا تستخدم الماء الثقيل. فقد استمرت المفاوضات طويلاً, وعبر مناورات ومناورات مضادة قبلت إيران بتعليق العمل في مفاعل اصفهان النووي ورضيت بتركيب كاميرات للمراقبة والتفتيش على كل مواقعها النووية, ولكن الضغط الأميركي لأسباب سياسية تتعلق بمخططاتها في المنطقة,أدى إلى رضوخ الترويكا الأوروبية في موقع التحالف, ليتم الكشف عن النوايا في الاجتماع الأخير: إن الغرب يشكك بنوايا إيران وإنها تسعى إلى إنتاج السلاح النووي, وأن الملف بكامله سيحال إلى مجلس الأمن بهدف فرض عقوبات
هذا الأمر أعاد إلى الواجهة بعيد سنوات من حصار العراق ثم احتلاله موضوع الهيمنة الغربية على مؤسسات المجتمع الدولي ودفعها لتحقيق أهدافه عبر الاتكاء على القانون, فقد تحول مجلس الأمن عملياً إلى مؤسسة أميركية, وتراجع دور القوى الدولية الكبيرة: روسيا والصين إلى مجرد تمنع عن التصويت ولم تستخدم النقض لتعطيل القرارات الجائرة بحق دول العالم الثالث.
العهد الجديد القديم لوكالة الطاقة الذرية يتسم بوضوح بالسعي لرفع الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن وفي ظل الإصرار الإيراني على الاستمرار في عمليات التخصيب والإنتاج الذاتي للوقود النووي تبدو الاحتمالات مرجحة لأمركهذا, أما الخطوات التالية من مجلس الأمن الدولي فقد أصبحت معروفة.
إن ملامح الحرب المعلنة على العالم العربي والإسلامي تتسارع وتائرها,وهي حرب ليست محسومة على أية حال لصالح الغرب, فإيران الإسلامية تستطيع التأثير على سوق النفط في العالم, ومن الصعب حصارها أو شن الحرب عليها حسب السيناريو العراقي, لذلك واستناداَ إلى الدروس المستفادة, وتصاعد صرخات دول الخليج الأخرى, بأن حرباً كهذه تؤثر عليها بالدرجة الأولى, فإن من المتوقع أن تدخل وكالة الطاقة الذرية في مرحلة مساومة تواكبها الترويكا الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية في مناورات متواصلة من الأطراف جميعاً بما يشبه تعليق الأمور انتظاراً لثغرة في الجدار الإيراني الصلب.
* كاتب فلسطيني