خمس سنوات ولم يهدأ سكان هذا الحي بتقديم المزيد من الشكاوى ابتداء من وزارة البيئة ومجلس الشعب وانتهاء بمحافظة دمشق..
خمس سنوات صدرت فيها ردود فعل إيجابية وتقارير علمية أكدت صحة الشكوى وصدرت بموجبها قرارات وتعليمات لاغلاق الورشات وتحويلها إلى مهن أخرى لأنها مخالفة لشروط الترخيص داخل المدن وتهدد البيئة..
والنتيجة..
ظل الوضع على حاله ولم يتغير.. وانتصر بريق الذهب على إرادة العيش في أعرق مدينة بالتاريخ.. والسؤال لماذا لم تنفذ القرارات لمعالجة الشكوى?
التراث الحضاري
وقبل أن نجيب على هذا السؤال ونعرض المشكلة, نذكر قليلاً بدمشق القديمة التي تعتبر أحد المواقع الأربعة في سورية المسجلة في قائمة التراث العالمي وهي (مدينة دمشق القديمة -مدينة بصرى القديمة -موقع تدمر -مدينة حلب)..
وهذه المدينة تعتبر معلماً حياً للثقافة العربية والإنسانية ليس فقط بالآثار التي تحتويها, لكن أيضاً بتقاليد الحياة الحضرية فيها.
والمعروف والبديهي أن مدينة دمشق هي أقدم عاصمة مسكونة في العالم ولم تنقطع فيها أسباب الحياة منذ تأسيسها في العصور الآرامية وربما الكنعانية وحتى وقتنا الحاضر.
والواجب يقتضي حل المشكلات القائمة ووقف التدهور السكاني والبيئي في مختلف أحياء المدينة القديمة انطلاقاً من الوفاء بحاجات السكان المادية (الحياتية المعيشية) والمعنوية (المحافظة على الخصوصية)..
ومن هنا كان العنوان الأبرز لحماية هذه المدينة هو: الحفاظ على الحياة الاجتماعية فيها واخراج الورشات والحرف التي تؤثر على صحة الناس وعلى النسيج العمراني التراثي فيها.. إلى خارج أسوار المدينة نظراً لما تسببه من تلوث وضجيج وقلق وتشويه للأبنية التاريخية..
صناعات غير تقليدية
وإذا كانت اجراءات حماية المدينة بطيئة وغير ملموسة لتحسين الخدمات من صرف صحي وكهرباء وماء وطرقات, فإنه لابد أن يسبقها تنفيذ قرارات المحافظة التي لا تقبل التأجيل بنقل جميع المعامل والمستودعات المقلقة للراحة والتي لا علاقة لها بالصناعات التقليدية إلى خارج المدينة..
كما أن تجميع المهن المتشابهة ومنها مهنة صياغة الذهب بمنطقة واحدة مناسبة يحميها من الاندثار ويجعلها تزدهر وتزيد قوتها من خلال توفير أفضل الشروط الصحيةةوالبيئية للعمل والابداع..
ويعتبر حي القيمرية من أبرز الاحياء السبعة لدمشق القديمة (العمارة -باب توما -الأمين -الشاغور -الجورة -مأذنة الشحم -القيمرية) نظراً لموقعه قرب الجامع الأموي والأسواق التجارية ولهذا يحتاج إلى حماية خاصة.
والنقطة الأهم للحماية هي تخليص الحي من ورش صناعة وصياغة الذهب وتلبيس المعادن البالغ عددها 14 ورشة وهي تستخدم مواد كيماوية سامة وليست ورشات تقوم بأعمال سياحية أو تراثية..
مخالفة لأنظمة الترخيص
مديرية الرقابة الداخلية في محافظة دمشق درست ميدانياً واقع ورشات صياغة الذهب في محلة القيمرية وأصدرت اقتراحاتها بتاريخ 15/6/2004 أكدت فيها أن هذه الورش البالغ عددها أربع عشرة ورشة تخالف القرار 25/م.د تاريخ 21/1/2004 الناظم للتراخيص الصناعية المؤقتة.
وذلك لعدم امكانية استغناء هذه الورش عن الصب للذهب واستخدام التلوين بمواد كيميائية سامة مثل السيانور والفيروسيانور, كما يسمى بالبرينتاج والتي تطلق أبخرة كيميائية ليست لها رائحة ولكنها ذات طعم حامض سام ومخرش للطرق التنفسية وتسبب خطراً على المواطنين الجوار وضرراً بيئياً لاطلاق مواد كيماوية سامة والتي يمكن أن يقوموا بها سراً وخارج أوقات الدوام الرسمي..
وتطلب الاقتراحات من مديرية دمشق القديمة انذار هذه الورشات باتباع سبعة شروط تحت طائلة الختم والاغلاق وهي: الامتناع عن عملية التلوين وتلميع الذهب وعدم استخدام أفران الصب وكل ما ينتج أبخرة تضر بالصحة العامة ومعالجة المواد الكيماوية المسموح باستخدامها والناتجة عن هذه الورش قبل صرفها إلى المجاري العامة وفق المواصفات المسموح بها وترحيل الآلات التي تزيد قوتها عن (3) أحصنة والأفران الموجودة ضمن الورش وتأمين التهوية المناسبة عن طريق شفاطات هواء واقتناء أجهزة الإطفاء والتقيد بمواعيد العمل المسموح بها.
قرار بالاغلاق النهائي
ومن جانبها وزارة الدولة لشؤون البيئة وبعدها وزارة الإدارة المحلية والبيئة وجهت عدة كتب إلى محافظة دمشق ابتداءً من عام 2003 وحتى الآن ودون نتيجة!
وبتاريخ 8/11/2004 وجهت الوزارة كتاباً برقم 451/ص إلى محافظة دمشق جاء فيه:
بسبب استمرار شكاوى المواطنين بعدم التزام أصحاب الورشات بالتعليمات الواردة وعدم امكانية ضبطها بشكل دائم ومستمر كون العمل قد يتم في الخفاء وخارج الأوقات الرسمية.
ولما كانت صحة المواطنين والأطفال والقيمة الأثرية لمدينة دمشق هي الأهم, واستناداً إلى أحكام قانون حماية البيئة رقم /50/ لعام ,2002 يرجى توجيه من يلزم لدى محافظة دمشق لمنح أصحاب ورشات صياغة الذهب وتلبيس وتغطيس المعادن مهلة ثلاثة أشهر على الأكثر قبل اغلاقها وبشكل نهائي والانتقال إلى خارج المناطق السكنية..
وفي كتاب آخر لوزارة الإدارة المحلية موجه إلى السيد وزير الدولة لشؤون مجلس الشعب برقم 452/ص وبتاريخ 8/11/,2004 أكدت الوزارة اعطاء اصحاب الورشات مهلة ثلاثة أشهر لاغلاقها بشكل نهائي.
إضافة إلى دراسة تعديل القرار الناظم لمنح التراخيص بحيث لا تمنح التراخيص داخل المدينة إلا لمحال بيع الذهب فقط دون وجود ورش للتلميع والصياغة وتلبيس المعادن..
وهذا العام وبتاريخ 3/8/2005 صدر الكتاب رقم 1235/ص الموجه إلى السيد محافظ دمشق ويطلب فيه السيد وزير الإدارة المحلية والبيئة اعلام الوزارة بالاجراءات المتخذة من قبل المحافظة لمعالجة هذه الشكوى نظراً لتكرارها من قبل المواطنين القاطنين في المنطقة وظهور اصابات صحية جديدة..
من ينفذ القرار..??
وهكذا.. تبدو الشكوى واضحة وضوح الشمس وهي مسألة بسيطة وتحدث في العاصمة حيث المحافظ والوزير المختص.. فما بالنا بشكاوى كبيرة وخطيرة أكثر وبعيدة عن العاصمة.
أيتها السيدات... أيها السادة
هذا مثال سيئ لدرجة محرجة للمسؤولين ولنا في الاعلام حيث ننقل يومياً تصريحاتهم التي تقول: الأولوية لحل مشكلات المواطنين خلال ساعات ومتابعتها دون انقطاع..?!
والمضحك المبكي في شكوى أهل القيمرية الموجهة هذه المرة للصحافة.. أنهم ومن كثر حيرتهم في معرفة السر بعدم اغلاق ورشات صناعة الذهب راحوا يعتقدون أن هناك (قراراً سياسياً) وقالوا في كتابهم بالحرف الواحد:
(قيل لنا أن هناك قراراً سياسياً أوقف القرار الإداري.. متى كان القرار السياسي ضد مصلحة المواطن الجسدية والفكرية والاجتماعية..).
فهل ينقصنا في هذه الظروف الصعبة مثل هذا الاستنتاج.. أرجو أن يقرأ السيد محافظ دمشق شخصياً هذا الكلام ويجيب بإجراء عملي ينفي الأوهام لأن المواطنين أغلى من الذهب..