هذه الصفة التي يشارك فيها الإنسان أقل من عشرين جنساً آخر من الحيوانات منها القردة والخنازير والدببة والقطط والكلاب والفئران- تعتبر ميزة في القدرة على البقاء, بسبب ماتمنحه من تنوع في مصادر الغذاء.
ومنذ أن وطئت قدم الإنسان سطح كوكب الأرض, اعتمد على حقيقة كونه كائناً (قارتاً) في بقائه, منتهجاً حياة تعتمد على صيد والتهام الحيوانات, وعلى جمع النباتات والخضروات والفواكه.
ولكن هذه الصفة حملت معها خطراً خاصاً أيضاً, في شكل تعدد واختلاف الأمراض التي يمكن أن تنتقل للإنسان من هذه المصادر الغذائية المتنوعة. فمن ضمن مجموعات الأمراض المعدية التي تصيب الإنسان, توجد مجموعة خاصة تعرف بالأمراض الحيوانية- الإنسانية (المشتركة), وهي الأمراض التي تنتقل إلى الإنسان من الحيوانات, سواء البري منها أو المستأنس, سواء عن طريق الأكل أم الاتصال المباشر أم غير المباشر.
ومع انتقال الإنسان إلى الحياة الصناعية في العصر الحديث, أخذت علاقاته بالمرض والغذاء بعداً جديداً, في شكل ما يعرف بالأمراض المنقولة مع الغذاء, فالحضارة الإنسانية في تجمعاتها السكانية الهائلة, والمعروفة بالمدن, يعتمد أفرادها في طعامهم اليومي, على مصادر غذائية تبعد عنهم مئات وآلاف الأميال. وهو ما يجعل هذه الأطعمة عرضة للفساد والتلوث, في رحلتها الطويلة من المزرعة إلى طاولة الطعام بالاضافة إلى أن إنسان العصر الحديث, يعتمد في غذائه اليومي بقدر, أو بآخر, على طعام خضع للمعالجة بطريقة صناعية, وأضيفت إليه مواد كيميائية, أو انتقصت منه عناصر غذائية في مرحلة ما من تصنيعه.
هذه الظروف الحديثة مجتمعة, نتج عنها ازدياد هائل في الأمراض المنقولة مع الغذاء. فعلى الرغم من أن هذه الأمراض تواجدت منذ قديم الأزل, وعانى منها أسلافنا إلى حد كبير, فإن تضافر العوامل والظروف التي ينتج فيها الغذاء حالياً, ثم ينقل, ثم يصنع , ثم يحفظ ويحضر, جعل من هذه الأمراض إحدى أهم مجموعات الأمراض التي تصيب أفراد المجتمع البشري حالياً, ففي الولايات المتحدة مثلاً, تصيب الأمراض المنتقلة بالغذاء قرابة ستة وسبعين مليون شخص سنوياً- أي ستة وعشرين شخصاً من بين كل مئة أميركي- يموت منهم خمسة آلاف سنوياً بسبب مرضهم. وفي بريطانيا تصيب الأمراض المنتقلة مع الغذاء مليوني بريطاني سنوياً, وفي فرنسا يصاب سبعمائة وخمسون ألف شخص سنوياً, يموت منهم أربعمائة بسبب مرضهم. وهو ما يعني أن الأمراض المنتقلة عن طريق الغذاء, تصيب عشرات الملايين سنوياً في الدول الصناعية المتقدمة, يلقى الآلاف منهم حتفهم, فما بالك بدول العالم الثالث والدول الفقيرة, التي تنخفض فيها معايير السلامة الغذائية عن مثيلتها في الدول الصناعية الغنية.
وبوجه عام, تحدث الإصابة بهذه الأمراض نتيجة تناول طعام ملوث بالبكتريا أو بسمومها أو بالفيروسات أو بالطفيليات. ويمكن لهذه الأمراض أن تنتج أيضاً جراء تلوث الطعام بالمبيدات الحشرية أو بالعقاقير والمواد الكيميائية, أو نتيجة تناول بعض السموم الطبيعية, كفطر عش الغراب السام.
وبوجه عام, ينتج تلوث الطعام بسبب عدم اتباع الإجراءات السليمة عند إنتاج الأطعمة, أو أثناء تحضيرها وتخزينها. وبسبب طبيعة وكيفية انتقال هذه الأمراض, تعتبر الوقاية الأولية هي خط الدفاع الأساسي, والأكثر فعالية في منع انتشارها.
هذه الوقاية يقع عاتقها على كل من الجهات الحكومية, وعلى الأفراد من خلال سلوكهم في التعامل مع الأطعمة. وتتمثل مسؤولية الجهات الحكومية, وهي الجزء الأكبر من المسؤولية, في النص على إرشادات وتعليمات واضحة ومحددة عند إنتاج, ونقل, وتصنيع, وتحضير, وتخزين الغذاء بجميع أنواعه. على أن توجه تلك التعليمات إلى المزارع, وشركات النقل, ومصانع الغذاء, والمطاعم, ولكل من له علاقة بالسلسلة الغذائية برمتها.
وبالطبع لا يمكن لهذه التعليمات والإرشادات أن تكون ذات فعالية تذكر, دون أن تصاحب بنظام تفتيش ورقابة عالي الفعالية والكفاءة, مدعوم بالسلطة القانونية القادرة على التغريم المالي, والسجن أحياناً للمخالفين.
ومن أهم تلك الإجراءات, ربما كانت تلك المطبقة بشكل واسع في العالم الغربي, والمعروفة بالقدرة على اقتفاء أثر المنتج, التي تعني ترقيم المنتج الغذائي النهائي, بشكل يمكن الجهات الحكومية من اقتفاء أثره, من نقطة إنتاجه, إلى تصنيعه, إلى تخزينه, إلى تحضيره, وأحياناً حتى يمكن العودة إلى الحيوان الذي تم الحصول على المنتج منه, بالإضافة إلى التاريخ الطبي لهذا الحيوان, وبقية أفراد القطيع المجاور له.
هذا النظام يمكن الجهات الحكومية من البحث والتحري بدقة وللوصول إلى النقطة أو المرحلة التي حدث فيها التلوث, أو انتقل منها المرض إلى المنتج الغذائي, وبالتالي العمل على إصلاح الخطأ, وفي الوقت نفسه, سحب جميع المنتجات الغذائية الأخرى, التي مرت بالنقطة أو المرحلة ذاتها خلال نفس الفترة الزمنية.
وهذه الدقة المتناهية والسرعة البالغة في اقتفاء الأثر, تضمن من خلالها الجهات الحكومية ألا تتحول إصابة فرد أو قلة من الأشخاص إلى وباء يعم قطاعاً أوسع من أفراد المجتمع, ويوقع عدداً أكبر من الضحايا.
ولن يمكننا هنا استعراض جميع الإجراءات الواجب اتباعها, والقوانين المفترض تطبيقها, للحفاظ على سلامة الأطعمة. وإن كان جديراً بالذكر هنا, ضرورة الالتزام بما يعرف بالسلسلة الباردة, وهو الحفاظ دائماً على درجة حرارة معينة لبعض الأطعمة من نقطة البداية إلى نقطة النهاية. وهذا الشرط الأخير, يقع جزء من تطبيقه على عاتق المستخدم النهائي في المنزل أيضاً حيث يجب الحفاظ على الكثير من الأطعمة داخل الثلاجات المنزلية طوال الوقت, مع التأكد من فعالية التبريد داخل الثلاجة من حين إلى أخر. وتمتد المسؤولية الفردية لتشمل غسل اليدين قبل تحضير الطعام وقبل الأكل, والحفاظ على المطبخ في حالة نظيفة قدر الإمكان, وغسل الفواكه والخضروات بماء جارٍ, والتأكد من تاريخ صلاحية عبوات الأغذية قبل استخدامها.
ويكفي للدلالة على أهمية هذه الإرشادات والنصائح, أن نتذكر أن الآلاف من البشر يفقدون حياتهم سنوياً, بسبب أن شخصاً ما, في مرحلة ما في تعامله مع الطعام, يجهل هذه النصائح أو قرر تجاهلها .