وعلى ما يبدو في كل مونديال تتدفق هذه الذكريات مقارنةً بأحداث تتشابه معها.. معلنة انطلاق دراما رياضية تنافس تلك الفنية ولعلّها تتفوق عليها.
من أبرز مفاجآت أو صدمات مونديال روسيا الحالي تضييع ميسي لركلة الجزاء قبالة منتخب آيسلندا في أولى مباريات المنتخب الأرجنتيني الذي صعّد من حدة صدمته لمتابعيه حين خسر قبالة كرواتيا بثلاثية سيطول أمد نسيانها.. وليُلام ميسي على كل ذلك.. دون التقليل من كونه ظاهرة ذكّرتنا بسلفه مارادونا.. وكأننا نحتاج لهؤلاء الأبطال لزيادة هوسنا بتلك الساحرة المستديرة.. المعشوقة التي كتب عنها أشهر الأدباء والفلاسفة وفي مقدمتهم سارتر معتبراً أنها اللعبة التي تختصر الحياة بكل تعقيداتها وقوانينها.. بدوره ألبير كامو اعترف أنه يدين بكل ما يعرفه من أخلاق لكرة القدم «التي لا يكرهها إلا الأغبياء وحدهم».. فعلّمته التأمل وفهم الحياة أكثر.
في كتابه (كرة القدم بين الشمس والظل) تحدث أدواردو غاليانو عن حارس المرمى ألبير كامو قائلاً: «في 1930 كان ألبير... يحرس بوابة مرمى فريق كرة القدم بجامعة الجزائر. كان قد اعتاد اللعب كحارس مرمى منذ طفولته، لأنه المكان الذي يكون فيه استهلاك الحذاء أقل. فكامو، ابن الأسرة الفقيرة لم يكن قادراً على ممارسة ترف الركض في الملعب».
من منظور كروي، ثمة حالة من العدالة مستلهمة من الكرة نفسها.. بمعنى أن الشكل الكروي يفرض كون كل النقاط على السطح تبعد المسافة ذاتها عن المركز.. وهو ماينسجم مع كون جميع الفرق تملك الحظوظ نفسها للفوز أو للخسارة فلا تهم التصنيفات الطبقية.. بالإضافة إلى إكساب المشجعين روحاً توصف كما هو معروف بـ(الرياضية).. فما يهم، نهايةً، هو اللعب الجميل الذي يوحّد مختلف سكان الأرض متحررين من انتماءات جغرافية ولو لزمن استغراق اللعبة لا أكثر.
بحسب منطق تلك الساحرة المستديرة، في تدوير فرص الربح والخسارة، ثمة أمنية بانتقال روحيتها إلى كل ما نملك من أفكار وقناعات متحررة من كينونة حضورها في زاوية ضيقة.. إلى رحابة وجمالية انتمائها لكل ما هو كروي مدوّر.. فلا انكسار او استعصاء ضمن يباس زوايا رؤية حادة وفردية.. ولطالما كانت، ووفق منطقها، اللعبة الأجمل والأنظف هي الأبقى.. لمَ لا يكون الفكر الأجمل والأنظف هو الأبقى..؟
أليس ثمة جماليات نلتقطها من متابعتنا لكرة القدم..؟
بعضهم تحدّث عن فنيّات جمالية.. وآخرون قالوا بهندسة اللعب وجمالياته.. بينما تطرق فريق آخر للقول بنص أدبي كروي، وهو ما لا يبتعد عنه نص غاليانو في تفنيده لكثير من الأمور المتعلّقة بكرة القدم وأهم مباريات كأس العالم من عام 1938، إلى مونديال 1994، جاعلاً منها مرآة للعالم تحكي حكايا المجد والبؤس والحب والاستقلال.
بعض أبطالها يلتحمون بذاك النوع من الحكايا التي أومأ إليها غاليانو.. فيصنعون أسطورتهم الخاصة وبريقهم الفريد وهو ما كان من أمر مارادونا الذي قال عنه الشاعر محمود درويش حين كتب مقالاً، عقب نهائي مونديال 1986، وفازت فيه الأرجنتين على ألمانيا، بعنوان «مارادونا.. لن تجدوا دماً في عروقه بل صواريخ».. ما يؤكّد كون لاعب كرة القدم قادراً على صنع دراماه الخاصة.. المتوزّعة طولاً وعرضاً وفق أبعاد المستطيل الأخضر.. المنفلت أبداً نحو لحظات دراماتيكية.. لن نحزر مضامينها سوى بنهايتها.. ودراما المونديال الحالي لن تتوقف بخسارة ألمانيا قبالة المكسيك ولا بصعوبة فوز البرازيل على كوستاريكا.. ولا غيرها من مفاجآت رهينة مكر ودهاء، وربما، حظوظ تلك الساحرة المستديرة.
lamisali25@yahoo.com