والمكتوبة إبان الحرب العالمية الثانية، والتي مُنِعَ نشرُها يومذاك، فاجأتني بمقطعٍ طويلٍ عن الصداقة فكنت كمن وجدَ لُقية نادرة، يقولُ الساردُ في الرواية:»الصداقةُ...كم هي متنوِّعة».
الصداقة في العمل. والصداقة في رحلة طويلة، والصداقة ما بين الجنود، والصداقة في السجن.
أين تكمن الصداقة؟ هل جوهر الصداقة في من يجمعهم العمل والمصير فحسب؟ إنّ الكراهية في الواقع تكون أحياناً بين أناس أعضاء في حزبٍ واحدٍ، ممن تختلف وجهات نظرهم في الشكليّات فحسب، وهي أكبر مما هي عليه بين هؤلاء الناس وأعداء الحزب، وأحياناً يكره الناس الذين يشاركون معاً في المعركة بعضهم بعضاً، أكثر مما يكرهون عدوّهم المشترك، وأحياناً تكونُ الكراهية بين السجناء أكبر من كراهية هؤلاء السجناء لسجّانيهم.
من الطبيعي أن تقابل أصدقاء في معظم الأحيان بين الناس ذوي المصير المشترك، والمهنة الواحدة، والأفكار المشتركة، ومع ذلك من السابق لأوانه الاستنتاج أنّ مثل هذا الجامع يحدّد الصداقة.
يمكن في الواقع أن تتكوّن صداقات، ما بين بشرٍ توحّدهم كراهيّةُ مهنتهم، يتصادق ليس أبطال الحرب وأبطال العمل فحسب، بل يتصادق الفارّون من الحرب ومن العمل، ومع ذلك فإنّ أساس الصداقة عند هؤلاء وأولئك يكون الجامع المشترك.
هل يمكن لشخصين طباعهما متناقضة أن يُصبحا صديقين؟ بالطبع!
الصداقة في بعض الأحيان علاقة غير مصلحيّة.
الصداقةُ أنانيةٌ أحياناً، وأحياناً تكون بمثابة التضحية بالنفس، ولكن من المدهش أن أنانيّة الصداقة تفيد بشكل غير أناني الشخص الذي تُصادِقُه، والتضحية بالنفس في الصداقة هي أنانيّةٌ في الأساس.
الصداقة هي المرآة التي يرى فيها الشخص نفسه، تتحدث أحياناً إلى صديق، فتتعرف نفَسك - تتحدث إلى نفسك، وتتواصل مع نفسك.
الصداقة هي المساواةُ والتشابه، ولكن في الوقت نفسه الصداقةُ هي عدم المساواة وعدم التشابه.
الصداقة تكون عمليّة وفعّالة، في العمل المشترك، وفي الكفاح المشترك من أجل الحياة، ومن أجل قطعة من الخبز.
ثمَّةَ صداقةٌ من أجل المثل الأعلى، صداقة فلسفيّة بين مُتحدِّثينِ مُتأمِّلين، صداقة أشخاص يعملون بطرق مختلفة، وبشكل منفصل، ولكنهم يحاكمون الحياةَ سويَّةً.
وقد تجمع الصداقة العليا ما بين الصداقة الفعّالة، صداقة العمل والكفاح مع صداقة المتحاورين.
يحتاجُ الأصدقاءُ دائماً بعضهم بعضاً، لكنهم لا يتلقَّونَ دائماً من الصداقة المقدارَ نَفسه، ولا يريدُ الأصدقاءُ دائماً من الصداقةِ الشيء نفسه، يصادق أحدُهم ويهدي الصديقَ الخبرة، والثاني يغني خبرته بالصداقة، أحدهم يساعد الصديقَ الضعيف عديم الخبرة، الفتيّ، ويتَعرَّف قوّته، ونضجه، والآخر الضعيف يتعرَّف في صديقه مثلَه الأعلى- قوّتَه وخبرته ونضجه، وهكذا أحدهم في الصداقة يهدي، والآخر يفرح بالهدايا.
ويحدُثُ أن الصديقَ هو مرجعٌ صامت، بمساعدته يتواصل الشخص مع ذاته، ويجد الفرح في نفسه، وفي أفكاره التي تسمع بوضوح، وتُرى بفضل انعكاسها في صدى روح الصديق.
عادة ما تتطلب صداقة العقل، التأملية، الفلسفية، من الناس وحدة وجهات نظر، لكن هذا التشابه قد لا يكون شاملاً، وتتجلى الصداقة أحياناً في الجدال، وفي تباين الأصدقاء.
إذا كانَ الأصدقاءُ متشابهين في كل شيء، وإذا كانوا يعكسون بعضهم بعضاً، فإن الجدال مع الآخر هو جدال الشخص مع نفسه.
إنّ الصديق هو ذلك الشخص الذي يسوِّغُ نقاط ضعفك وأوجه قصورك وحتى عيوبك، والذي يثبت أنك محق وموهوب وجدير.
الصديق هو ذلك الشخص الذي، ومن حبّه لك، يفضح نقاط ضعفك وأوجه قصورك وعيوبك.
ترتكزُ الصداقةُ إذاً إلى أوجه التشابه، ولكنها تتجلى في الاختلافات والتناقضات وعدم التشابه أيضاً. وهنا يسعى شخصٌ في الصداقة بشكل أنانيّ للحصول من الصديق على ما لا يملكه هو، وهنا يحاول شخص في الصداقة أن يقدّم بسخاء ما يملك.
الرغبة في الصداقة متأصلة في الطبيعة البشرية، والشخص الذي لا يعرف كيفية تكوين صداقات مع الناس يصادق الحيوانات- الكلاب والخيول والقطط والفئران والعناكب.
إنّ الكائن القوي بالمطلق لا يحتاج إلى صداقة، مثل هذا المخلوق على ما يبدو، لا يمكن أن يكون سوى الربّ نفسه.
إنّ الصداقة الحقيقية غير مرتبطة بمسألةِ أن صديقك على العرش أو خُلِعَ عن العرش، ووجد نفسه في السجن، إنّ الصداقة الحقيقية تتوجّه إلى الميزات الداخلية للروح ولا تبالي بالمجد، والقوة الخارجية.
تتنوعُ أشكالُ الصداقة، وتكثرُ مضامينُها، لكن ثمةَ أساساً ثابتاً للصداقة لا يتزعزع - هو الإيمان بعدم خيانةِ الصديق، وهو الإخلاص للصديق».