الذي نستطيع من خلاله قراءة التاريخ بشكل قد لانقرأه في كتب المؤرخين التي قد لا يحمل المؤرخ أثناء كتابتها ما يحمله الروائي من أحاسيس وانفعالات وسبر خفايا الذاكرة ذاكرة الحياة, ولا حتى مشاركة أصلية من تفاصيلها ليستمد الكتاب مواد خام لرواياتهم.
إذا عدنا إلى التاريخ الأوروبي في القرن التاسع عشر- لنقرأ ملامحه- لما استطعنا أن نكون فكرة واضحة عن هذا العصر الذي سادت فيه الرأسمالية بأبشع صورها واستغلالها للإنسان إلا من خلال قراءة روايات كتاب بريطانيا وفرنسا وورسيا- ومنهم- تشارلز ديكنز- إميل زولا- وتولستوي وديستويفسكي...
من هنا, وإذا تبدت لنا ملامح تاريخ ذلك العصر فإن بإمكاننا ومن خلال قراءات مطولة لكتاب كثر أمثال همنغواي وشولوخوف- طاغور... وغيرهم, أن نتصور وبالأمانة الصور الحقيقية التي قدمها هؤلاء لتطورات المجتمع بكل نواحيه في القرن العشرين...
أما في تاريخنا العربي, فقد تمثلت الرواية التاريخية أول ما تمثلت في سلسلة روايات( جرجي زيدان) التي عكست الفترات التاريخية والدينية التي عاشها ومثال ذلك روايته(محمد علي) ( الانقلاب العثماني) و( فتاة غسان) الشهيرة, والتي تناول فيها أحداث من العصر الجاهلي. مهدت لظهور الإسلام.
الأديب اللبناني( أمين معلوف) شغل بقضايا الصراع التاريخي بين الغرب والشرق ما جعله يركز في رؤيته الأدبية خاصة في رواية ( ليون الإفريقي) على النواحي الإنسانية المناهضة للحرب والقتل والتعصب الذي تعانيه البشرية باسم الدين والمذهب والجنس.
وعلى جانب آخر, فقد كان كل من الروائيين المصريين(نجيب محفوظ) و( عبد الرحمن الشرقاوي) رائديي الرواية التاريخية حيث عاشا تطور المجتمع منذ القرن العشرين واستطاعا من خلال إبداعهما الروائي أن يقدما لنا وصفاً دقيقاً للأوضاع التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي كان يعيشها الإنسان في ذلك العصر. إنها اسقاطات واقعية وسياسية تعبر عن موقف هذين الروائيين من تحولات العصر الذي عاصروه فدونوا تحولاته...
ففي رواية ( الأرض) لعبد الرحمن الشرقاوي وصف لأوضاع القرية المصرية والسلطة والمثقفين والمقاومة إنه تاريخ حافل بأحداث عكستها ثورة يوليو 1952 هذه الثورة التي قدمت تاريخاً مماثلاً, بل أشد عمقاً وتفصيلاً وتأثيراً في روايات ( نجيب محفوظ) الذي قدم في ثلاثيته الكثير من الأحداث والتشابكات والصراعات الاجتماعية والطبقية والفكرية, ما جعل المجتمع المصري يسير في طريق الوعي والمقاومة, ومن ثم ينتابه الكثير من الاحباط والشعور بالهزيمة والعجز, وهذا ما كان واضحاً في رواية ( السمان والخريف) ( ميرامار) ( ثرثرة فوق النيل)...
وإذا أردنا أن نتحدث عن الرواية التاريخية التي كتبها أدباء فلسطين فحدث ولا حرج فهل هناك تاريخ أشد وضوحاً لدينا من تاريخ احتلال تجدده كل العصور. ورغم ذلك كان لابد من تدوينه بأقلام عمدت بدماء الضحايا والشهداء. أطفال وشيوخ ونساء هم مواد خام لكل مبدع ,وشاهد على تاريخ لن ينسى...
نذكر من هذه الروايات( الأرض المغتصبة) و( الهجرة إلى الجحيم) لمحمود شاهين أيضاً ( سداسية الأيام الستة) و(الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل) لأميل حبيبي- وغيرهم كثر...
نتوقف قليلاً لنذكر الروايات التي تتحدث عن سجون التعذيب السياسي فلها نصيبها بتدوين تاريخ من القهر والعذابات والإهانات التي كان يتعرض لها كل معتقل سياسي ولنا نصيبنا من اكتشاف وقراءة هذا التاريخ ألم يفضح الروائي( نجيب محفوظ) ممارسات الأجهزة القمعية في رواية( الكرنك) ( عبد الرحمن منيف) روائي متخصص في الكتابة عن( السجن السياسي) والقمع الفكري- فهما أهم محاور روايتيه( شرق المتوسط)( الآن .. هنا) وهو ربما أراد فضح جلادي عصور القهر والتعذيب... إنها عصور سراديب الموت.. موت كرامة الإنسان وحقوقه.. وربما وكما قال في إحدى مقابلاته بأن هاجسه الإبداعي أن يجعل الناس يرون حقيقة الحياة المليئة بالمرارات والخيبات والقمع والحقوق المسروقة..
أخيراً نقول: نتمنى أن تبقى الرواية التاريخية ذاكرة حقيقة لكل العصور.. ذاكرة مليئة بالعبر والحكايات حكايا الشعوب فوحدها ذاكرة الكلمات لا تعتقل ولا تهرب ولا تتجمل ولا تشترى وتباع...
إننا أشد حاجة من أي وقت مضى في حياتنا لقدرات إبداعية كاشفة مرارة الماضي وقادرة على استكشاف المستقبل... هذا المستقبل الذي أصبح على كف معجزة لا أحد قادر على استكشافها.. ولا سيما في زحمة تنافس إعلامي وفضائي لا أتمنى أن يفقد ذاكرة العرب هويتها.