هو مصطلح جديد حمال أوجه لذلك فإن الإيبستيمولوجيا التي يفهم مجهود كارل بوبر في أفقها هي فلسفة العلوم غير أن الباحثين يحددون مجال الإيبستيمولوجيا تحديداً في غاية الدقة فيميزون بينها وبين الميتودولوجيا (علم المناهج) ويرفضون ردها إلى المذهب الوضعي أو المذهب التطوري من حيث أنها لا تتساوق مع هذين المذهبين في تركيب القوانين العلمية أو تأليفها أو استباقها بل هي عموماً في هذا الاتجاه «بحث نقدي لمبادىء مختلف العلوم ولفروضها ونتائجها بقصد تحديد أصلها المنطقي (لا السيكولوجي) وبيان قيمتها وحصيلتها الموضوعية» وهذا التعريف للإيبستيمولوجيا هو تعريف لالاند المفكر الفرنسي صاحب المعجم الشهير إلا أنه بالرغم من هذه التحديدات التي وضعها لالاند إلا أن الكثيرين من النقاد يعتبرون أن ميدان الإيبستيمولوجيا لا ينحصر في نطاق محدد وإنما يتداخل مع اختصاصات علوم أخرى وعلى أي حال فإن كارل بوبر هو باحث كبير في فلسفة العلوم وقد تضلع في الفيزياء والرياضيات والفلسفة وذهب في آرائه مذهباً يقربه من «دائرة فيينا» التي أسسها مورتس أشلك وكانت هذه الدائرة عبارة عن جمعية فكرية تضم كبار الفيزيائيين والرياضيين وعلماء النفس الذين كانوا يعالجون المسائل الفلسفية الكبرى انطلاقاً من موقف «الوضعية المنطقية» لكن كارل بوبر اختلف مع جماعة علماء «دائرة فيينا» في نقطة أساسية وهي أنه يرفض على العكس منهم أن يكون الاستقراء دليلاً يؤول بالباحث إلى اليقين لأن اليقين يمكن الاقتراب منه عبر التحقيق التجريبي للآراء بواسطة النتائج الناجمة عن هذه الآراء نفسها وفي هذا الاتجاه جاء كتاب كارل بوبر «منطق البحث العلمي» الذي نشره عام 1935في سياق منشورات دائرة فيينا وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية عن الألمانية محمد البغدادي وهو أستاذ الفيزياء والرياضيات في جامعات دمشق والرباط وديجون بفرنسا وهو أيضا مؤسس ومدير مختبر الفيزياء النظرية في الرباط (1972-1998) وعلاوة على ذلك له عدة كتب بالعربية والفرنسية. والجدير بالذكر أن محمد البغدادي قد ترجم كتاب بوبر «منطق البحث العلمي» وجاءت ترجمته بمثابة قطف لثمار جهود مضنية بذلها كارل بوبر من ناحية حيث عمل في هذا الكتاب حوالي الستين عاما وبمثابة تتويج لجهود مضنية بذلها المترجم نفسه في نقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية. ويشير المترجم إلى الصعوبات التي اعترضته والتي تجلت في الحجم الكبير للكتاب بفصوله العشرة وهوامشها المتعددة المعدلة والموسعة على مدى ما ينوف عن نصف قرن وبملحقاته التي ما فتىء كارل بوبر يضيفها أو يعدل فيها وقد تجاوز الثمانين من العمر ويقول المترجم إن الكتاب مصوغ بلغات ثلاث: لغة الفلاسفة، لغة المناطقة، لغة العلوم البحتة وتحديدا اللغة الرياضية- الفيزيائية. والحقيقة أن موقف كارل بوبر الأساسي يتضح تماماً في أفق رفضه لآراء أتباع «دائرة فيينا» فلئن كان بوبر يرى أن التحقيق التجريبي للآراء أو النظرات عن طريق النتائج المستخلصة منها هي نفسها أو الناجمة عنها هو المفيد لليقين إلا أنه يرفض التحقيق التجريبي كما فهمه أتباع دائرة فيينا فقد ذهب هؤلاء إلى أن القضية تكون ذات معنى إذا أمكن تحقيقها تجريبيا لكن بوبر يرى أن هذا المعيار والذي يزعم أتباع دائرة فيينا أنه معيار العلمية لا يمكن أن يُقَوِّم أو يفسر القوانين العلمية من حيث المعنى أي معنى هذه القوانين بوصفها قضايا كلية ومن هنا اجترح بوبر معياراً جوهرياً في هذا المنحى وهو «إمكان البطلان» ورأى فيه بديلا عن معيار أتباع دائرة فيينا الذي هو «إمكان التحقيق» ومعيار «إمكان البطلان» لا يتأسس على فكرة أن القضايا الكلية ليست مستفادة من القضايا الجزئية وإنما يقوم على فكرة أن القضايا الجزئية يمكن أن تكون سالبة للقضايا الكلية أو قادرة على تقويضها وبالجملة فإن بوبر يؤكد أن الفرض العلمي هو تبع لملكة التخيل وليس تبعا لفعل ملاحظة انتظام حدوث الظواهر وينكر بوبر وجود ملاحظة بحتة لأن الملاحظة يجب أن تكون قائمة على الافتراض المسبق وبناء على ذلك يظهر فرق دقيق جدا بين «التحقيق التجريبي» كما فهمه أتباع دائرة فيينا وكما فهمه بوبر إن أتباع دائرة فيينا يعتقدون أن القضية تكون ذات معنى إذا أمكن تحقيقها تجريبياً أي إذا كانت موجودة فعلاً في مستوى التحقق العيني أما بوبر فيرى إلى أن التحقيق التجريبي للقضية مفيد لليقين لكن إذا جاء هذا التحقيق نفسه على أساس أنه تحقيق لغرض علمي مبني على ملكة التخيل فالتخيل جوهري لأنه يمنح الظواهر شكلاً مقنعاً لكن التخيل هنا يجب ألا يكون مهوشا بل فعلاً خلاقاً وعموما فإن بوبر يرى أن أية نظرية علمية هي بمثابة فرضية فإذ أثبتتها الوقائع دائما فهي صحيحة وإذا تبين عكس ذلك بطلت وهذا يعني أن بوبر يرفض وجود حقائق مطلقة .
الكتاب: منطق البحث العلمي
المؤلف: كارل بوبر ترجمة وتقديم: د. محمد البغدادي.
الناشر: المنظمة العربية للترجمة يقع الكتاب في 306 صفحات من القطع الكبير