أذكرهما، لإبراز المفارقة في الأداء الصوتي للغة القصيدة ومضمونها! ثمة بيت شعري، ألحَّ علي بمشهده الوصفي، أو جمالية الوصف فيه وقيمته الدلالية، وهو:
حتى فساتيني التي أهملتُهــــــــــا
فرِحت به رقصت على قدميـــه ِ
ويمكن النظر في هذا البيت، من أكثر من زاوية، لحظة معرفة البيتين اللذين يسبقانه، أكثر:
ما عدت أذكر.. والحرائق في دمي
كيف التجأت أنا إلى زنديـــــــــــه
خبَّأت رأسي عنده... وكأنَّنــــــــي
طفل أعادوه إلى أبويــــــــــــــه...
ومعرفة البيت التالي عليه، فيما بعد:
سامحته.. وسألت عن أخبــــــاره
وبكيت ساعات على كتفيــــــــــه
إن السؤال الذي يُطرح هنا، هو:كيف يمكن الربط بين هذا البيت والبيتين اللذين سبقاه، وكذلك البيت الذي تلاه، لأن الصورة الشعرية في البيت المقصود، هي التي تعنينا، وتبرِز نوعية العلاقات القائمة بينه وبين الأبيات الأخرى، وأي تناغم يجلوها معاً؟ والسؤال الأهم في هذا الإطار، هو: باسم من كان يتحدث الشاعر الراحل من جهة، وما موقع الفساتين تلك، وصلتها بالجسد، وبالآخر، وفي الوقت الراهن، وكيف تفرح به في مجموعها، من جهة أخرى؟ مرتكز:
من اللافت، أن قباني، شديد الاهتمام بالمظهر الخارجي، بما يغلف الجسد الأنثوي بصورة خاصة،فهو وصَّاف ماهر، ومقتفي أثر المرئي، حيث التأكيد على الإغراء الأنثوي، والإفصاح عن ذوق الذكورة، ملحوظ في الوصف الخارجي هذا. والحديث عن اللباس ركن من أركان إبراز جماليات المرأة، أو الأنثى،ففي ذات الديوان، هناك قصيدة أخرى باسم( فستان التفتا)، وفي ديوانه( قالت لي السمراء)، ثمة قصيدة، تحت عنوان لافت بدوره، وهي( مذعورة الفستان)،وفي ديوانه( طفولة نهد)، ثمة قصيدة، تحت عنوان( إلى وشاح أخمر)،أما في ديوانه( قصائد)، فثمة قصيدة، تحت عنوان( القميص الأبيض)، وأخرى، هي ( عودة التنورة المزركشة)..الخ، وهو اهتمام يفصح عن جوانب ذوقية وثقافية عنده. ما يهمُّني، وكباحث، ذاك البيت أعلاه، وكيف ركَّبه بالطريقة الشعرية هذه. إن الجذب الشعري يكمن في عبارتين( فرحت به)، و(رقصت على قدميه)، ولكن كيف تم هذا؟ الشاعر يتحدث باسمها، والخطاب محوَّل، بالتالي، باسمها إلى الذي تعنى به، وفي الحالتين، تكون العلاقة مركَّبة، أولاً، وبصورة رئيسة، من جهة صاحبة الفساتين، لأن الكلام يتلون بمشاعرها وأحاسيسها، وتكون هي في معرض الإفصاح عما هي عليه نفسياً، وثانياً، يكون الآخر، في حالة غياب،فكل ما يخصه، هو أنه يتشكل، ولا يُعرَف عنه شيء، لأن صاحبة الموضوع، أو المشكل، تكون المتحدثة في القصيدة، بينما يكون الشاعر، هو محل المساءلة عن كل ذلك! في الوسط، تكون العلاقة متوترة، إنها ساخطة، وتبكي وهي في حضنه، تتمناه رغم تمنعِها عليه، ولكنها في قرارة نفسها تريده، وليس لديها سوى حبه له، وما عودتها إليه، إلا كعودة الطفل الذي ضاع، أو المفقود إلى أبويه،وهي الصورة التقليدية المعطاة أو المتداولة، أو المتوارثة عن المرأة إجمالاً، في واعية الرجل تاريخياً. وفي السياق، لا يمكنها أن تستغني عنه. أي قيمة اعتبارية تتبقَّى لها في الحالة هذه؟ لكن رغم ذلك، يكون المشهد الاستغرابي، هو مشهد الفساتين الراقصة! الشاعر يتقمصها، بلسانه يكون، أو يجري التعبير الشعري، وجمال الزي وبعض من مواصفاته، إنما كيف؟ الفساتين كلها، كيف يحدث هذا؟ كيف ترقص فساتينها مجتمعة، على قدميه؟ ربما لا نستطيع استيعاب المشهد، بالطريقة التي تخيلَها الشاعر، وهو استخدام جميع الفساتين،وليس الفستان الواحد، لو أنه قال( حتى فساتيني فرحت به)، لقلنا، إن في الصورة استعارة، ضرباً من المجاز، تأكيداً على الفرح الذي عمَّ البيت، حتى بالنسبة لموجوداته، ولكن ارتباط الفساتين كافتها بالرقص، يستثير القارىء، كيف يحصل هذا، دفعة واحدة؟ أليس هذا عائداً إلى الوزن، من جهة الالتزام بالبيت، أي أن القصيدة من ( بحر الكامل)، بانسيابية إيقاعيته، وتوافر الحركة المديدة. أتراه، كان عاجزاً عن استخدام مفردة أخرى أم أكثر، ليستقيم الوزن، بدلاً من ( فستان)؟ إنها مبالغة تستوجبها الحالة النفسية، المبالغة التي تدفع بها، إلى أن تلبس كل فساتينها، لترقص على قدميه، وكأنها ما كانت تصدق عودته إليها، لا بل عودتها إليه؟ إن بناء القصيدة، والمشهد الشعري العام، وسياق العلاقة...الخ، يشير إلى أنه هو الذي ذهب إليها، إلى بيتها، وإلا لما كان حديث عن عموم فساتينها، وفي وضع كهذا، لا بد أنها هرعت إليه، هي لا تصدق عينيها، وكأنها هي التي ذهبت إليه، ليكون موقع الطفل المعاد إلى أبويه محل مساءلة، إلا إذا أراد الشاعر مجدداً، أن يثبت أن حبيبها، ذهب إليها شفقة، وأنها التجأت إليه، أي بنوع من الضرورة، تظهر ضعفها، وبالتالي تعترف بأن الآخر، هو الجدير بالتقدير، أنه على صواب. إن الحركة الناطقة هنا، حركة مَن أصابها الخوَر، من تم انتشالها من يأس، وأن البكاء هو شاهد حسّي على أنها لا تستطيع الاستغناء عنه، أنها موجودة به،وليس العكس. ولهذا، يكون السؤال: هل يتحدث الشاعر باسمها، وكما تريد، أم باسم الرجل، الذكورة الطافحة التي تفتن المرأة، تسربل مناخ القصيدة، تمتلكها بمؤثراتها، إذ يكفي حضور الرجل، حتى يكون كل شيء محوَّلاً إليه، إنه في حالة غياب، لم ينبس ببنت شفة، ورغم كل ذلك، يكون المسيطِر هو، فحضورها هو بلاغة تاريخه، غوايته المضَّطردة، وليس لكلامها المشيع بالبكاء وحالة اللا تصديق، وهي تحبّذ الرجوع إليه، بعد أن أظهرت أنها خلاف ذلك ( أيظن أني لعبة بيديه؟)، أي قيمة دلالية، إلا دلالة إشهار عجزها، وفعالية الآخر. تبقى مفردة " الفساتين" مشكلة المشاكل هنا، إذ إنها تعيدنا إلى ذلك التاريخ، إلى طبيعتها، أي لا بد أنها كانت طويلة، ولا يمكن لفساتين أخرى أن تكون قادرة على الرقص على قدميه( أن تلمس قدميه)، إن لم تكن طويلة، فثمة حديث عن المود(الموضة)، وفي ذلك الوقت، حديث يعبّر عن الفتنة التي تتمثل في الأنثى بالذات، وهي في الفستان الطويل، رجوعاً إلى التاريخ، وقد تجلَّى في كامل رومانسيته، بغض النظر عن الحالة الاجتماعية. ثمة ارستقراطية في المشهد الشعري، وحتى تسوية للعلاقة، وتسيير لها، باسم الذكورة الغاوية، أما الأنثى فمأخوذة بالذكورة. أهي فلتة لا شعورية من لدن الشاعر، انسياق وراء زخم الرغبة الخاصة به، في تجلّي الذكورة، لتعظيم الأثر الشعري، وليكون في وسع قارئه، تذوق الجمال الموصوف، واستمرائه بنهم؟ إن العلاقة المركَّبة، للمشهد الشعري، تتبدى في مفارقيتها، لحظة التذكير بكل من محمد عبدالوهاب، ونجاة الصغيرة، وكلاهما يعني الشاعر دلالياً. تصوروا، كيف يمكن تذوق الصوت الذكري، وهو يترنم بهذه القصيدة كاملة، وبدقة أكثر، بالبيت المذكور، إذ يحيل المطرب ذاته، إلى ذات أنثى، أو يمارس تقمصاً لشخصيتها، ليكون الأداء قابلاً للإصغاء، أما نجاة الصغيرة، فهي تستحق الترنم بالقصيدة،أو غناءها، من خلال الموضوع، أو حكاية القصيدة بالذات، ولكن، دون التغافل أن القول الشعري، ممهور بحضور الرجل، وأن صوتها مباركة على المتضمَّن فيه قيمياً! ومثلما يبدو طرب الشاعر مع قصيدته الموسومة، وبدقة لافتة، هذه، أكثر من مجمل القصائد الأخرى، تلك التي ذكرتها، إذ يتمثل وضعاً جندرياً( على أنه الممثّل لمن تتحدث في قصيدته)، دون أي ارتباك، أو شعور بالمفارقة، وما في اللاشعور هذا، من طفح ذكورة تليدة، وتقويل الأنثى، بما يرضي رغبة الراغب فيها، هكذا، يبدو طرب المغنّي، وهو طي الفساتين الأنثوية، وكأني به يعلّم أنثاه، كيف يمكنها أن تبكي، أو تظهر ترددات صوتها، أو بحتها الصوتية، وتشهر أنوثتها، لمن لا يجب التفريط به، وهي وسط فساتينها الراقصة على قدميه. تُرى، أي قيمة جمالية بقيت لقصيدة كهذه، يمكن أخذها بعين الاعتبار، رغم التحفظ الكامل عليها قولاً شعرياً، ونسقاً ثقافياً، وأداء صوتياً، من لدن صاحب( الجندول)؟ وفي أيامنا كهذه، حيث الفساتين القصيرة تزاحم الطويلة، بل تستأثر بالجسد الأنثوي، إلا في حالات خاصة، عندما تكَلَّل العروس، وهذه الحالة لا تبدو مشجعة، للالتفات إلى فساتين نزار قباني تلك، لأن فستان العروس يبقى محيطاً بكامل جسدها، وإذا كان رقصٌ، فقليلاً ما يرقص على القدمين، إنما يمارس مسحاً للمكان، لوساعته الهائلة، إبرازاً لفتنة أنثوية أخرى، لم يدَّخر الشاعر جهداً،في وصفها!