يمخر عباب لوحاته بأشرعة معلقة على مساحة وعيه بالأشياء والأفكار، ومخيلته المفتوحة على عالم حافل بالحلم واليقظة وتجليات التاريخ والأسطورة، متكئاً على موهبته المصقولة كذات باحثة منذ عدة عقود من الزمن. مُبحراً في عوالمه التشكيلية التي تفوح منها رائحة الزمن المتغير بوسائط ابتكار شخصية، قادته إلى مساحة واسعة من نجومية براقة في ميادين اللوحات التصويرية، كواحد من فرسانها المميزين. كانت وما زالت مساهماته التشكيلية، تُسقط أنوارها الفنية البهية داخل أسوار الفن التشكيلي السوري. يُدهشنا في حضوره الفني وغزارة إنتاجه، وتواجده الدائم كعارض مميز في صالات العرض الرسميّة والخاصة، وأشبه بفراشة ملونة، مقبلة على العطاء، ومغمسة بربيع الأساطير، مُحمل بالحكايات التي لا تنتهي. هو من مواليد مدينة حلب، تخرج من مركز الفنون الجميلة فيها عام 1965، أقام أكثر من ثلاثين معرضاً فردياً، ومشارك دائم في العديد من محترفات الفن العربية والأوربية واسماً لامعاً في مساحة العروض التشكيلية الجماعية داخل سوريا وخارجها، حائز على مجموعة من الجوائز المادية والعينية وشهادات التقدير، متفرغ كلياً لفنه كفنان محترف.
ها هو يُطل علينا في سفره اللوني الجديد، بمعرضه الفردي المُقام بصالة ((Art House بيت الفن بمدينة دمشق ما بين 15- 31 آذار 2008. حاملاً ولائمه التشكيلية مدونات بصرية مُتجددة لموسيقى اللون والفكرة والحركة، مرصوفة بأناقة شكلية فوق أقمشة اللوحات، حافلة بنظافة اللون وجمالية عزفه التقني، في ملونات فرحة متوازنة مع قتامة الخلفيات، ومقدرته في رسم معالم التناقض اللوني ما بين ملونات حارة دافئة، وهادئة باردة، ومربوطة بحيز جمالي لتقاسيمه المنشودة عِبر مقطوعات سرد بصري. مقطوعات شكلية ملونة المتن والهيئة والأحجية والتفاصيل. مُستعارة من قصص (ألف ليلة وليلة). ليالي الفنان (سعد يكن) التصويرية، المُتخيلة في لحظة هوى تارة، ورغبة مقصودة في تحليق بصري في جميع الأحوال. يأسر حواسنا ومداركنا بمقاماته الوصفية، يقودنا إلى مفاتن الدهشة وغواية التأمل والحوار والمساءلة، والبحث المعمق في مقولته الفنية، ورصد مساحة جموح أفكاره، وما تخفي من مضامين رمزية ومعان متصلة بالإنسان بما فيه من تناقضات. سابحة في أمواج تناسقها اللوني المشهود في الخلفيات المُصمتة، كمقابلة شكلية موضوعية، تفسح المجال لموهبته النفوذ على رصف معالم رموزه ومفرداته فوق متواليات الفكرة والنصوص. فيها إتقان ملحوظ وحوارية بصرية مدروسة لمساحة الرؤى والتجلي، المتآلفة من تداخل الخط واللون والحركة الإيقاعية الراقصة المتناغمة مع حركية العناصر الرئيسة، المُنفعلة بالحدث،
والمُعبرة عن أنفاس القصة المحكية. ومشغولة بعناية فائقة ودرجة إتقان تقني تصل لحدود الحرفية الطلقة، من موهبة مصقولة بمدارات الزمن الفني الجميل، ويد خبيرة ممسكة بناصية الفن، وأدوات المعالجة التقنية التي تعرف طريقها ومكانها بثقة وسهولة ويسر فوق سطوح التجليات المشهودة في عموم لوحاته. فيها كثير من المشابهة الشكلية، والمتواليات المربوطة بفكرة تعبيرية واحدة، ترسم معالم الوحدة العضوية الجامعة لمفاتن خبراته، ونقل رؤاه الفنية في لحظات التجلي، سواء في آليات الرصف الشكلي لمكوناته، أو توزيع شخوصه ومقاماته الحسيّة والجمالية أو في توازنها البصري واللوني مع الخلفيات المتممة. جمالية من نوع تعبيري مفعم بالخصوصية، خارجة من عقال النمطية، غير عابئة بالجمال التقليدي المألوف لعين المتلقي السوري وخارجة عن طوق الرتابة الكلاسيكية، ومنابت التشكيل الواقعي التسجيلي. جمال مأخوذ بغواية الفكرة وفتنة الأسطورة وتفاصيل الحكاية، وغناء اللون المتداعي داخل حيز اللوحات، والمشمولة بحركية السرد البصري في ملامح تعبيرية غير مسبوقة. قوامها ملونات الأكرليك وفراشي الرسم، وموهبة حاضرة على الدوام، وقادرة على التقاط مشاهد بصرية مُختارة من لياليه الحالمة متداخلة النصوص والشخوص، مليئة بإحالات الرمز والمدلول والمعاني التي تنشدها كعوالم غابرة في إسقاطات تعبيرية وجمالية لواقع آني مُتخيل وافتراضي. لوحات عامرة بحيوية التفاصيل، لا تُبقي في متن سطوحها مساحة مجانية،
تبني جسور آمنة ومتواصلة مع عين المتلقي وبصيرته في إحداث نوعاً من التفاعل البصري، لمقامات بصرية غرائبية في تداخلها الشكلي المرصود. أخاذة في ملوناتها، فيه نوعاً من الجدل والحوارية الحسيّة والعقلية مع غائية النصوص، حوارية تربط الشكل البصري بالمفهوم الفكري، وتُقارب المسافة ما بين جمهور التلقي من جهة، وذات الفنان المثقفة والموهبة الخبيرة والمدربة في خوض غمار التشكيل البصري من جهة ثانية. وتقود الجميع إلى واحة عبور موفق لمدارات الفكرة التعبيرية المرسومة، وعلاقتها بوظيفية الخبرة ومقدرتها على صناعة فن فني وحرفي بلحظة ابتكار واحدة فيها التجلي للفنان ورؤيته الفكرية التي تقف وراء اختيار نصوصه بحرفية عالية المستوى. لوحات تستدعي شخوصه المتناسلين من روح القصيدة البصرية الملونة، والحافلة بثنائيات الوجود الكوني الإنساني، والمُبحرة في عوالم الأسطورة الشعبية المسكونة في عقل الإنسان وتفاصيل وجدانه، والمُشبعة بالمتناقضات الدائمة، العاكسة لوعي الإنسان لذاته عموماُ والفنان (يكن) خصوصاً، وسبل تعامله ورؤيته لمحيطه الإنساني والبيئي. محكومة بجبرية المحاورة والتناقض الأزلي ما بين مفاهيم الخير والشر، الحب والكراهية، الموت والحياة، الحنو والقسوة، الجلاد والضحية، الأسياد والعبيد، الحكام والمحكومين، الرجال والنسوة. ثنائيات دائمة التواجد في النفوس والسلوك الإنساني إلى يوم يُبعثون. مقامات بصرية لحكايات شعبية محلية وكونية، غربية ومشرقية، حداثية الوقع البصري والصدى الشكلي، متوالدة من التعبيرية الحسيّة، والمحملة ببهاء اللون وتدريجاته الاشتقاقية المتناسلة من دائرة ألوان قزح، ومفاعيل دائرة الألوان الأساسية. والخطوط اللينة والمرافقة لرقص المساحة واحتضان الملونات، ومصحوبة بحركية الشخوص المرنة، ككتل شكلية لونية مُعبرة عن مدلولات الفكرة المُتخيلة، التي تقض مضاجع الحكاية، وتفض بكارة الأسطورة المشرقية في كثير من الأحوال، وتدثر في ولائم سرد بصري متجددة على الدوام، لا تخرج عن لازمة الفنان (يكن) التصويرية، وخاصيته المعهودة في تقديم شخوصه ومكوناته. تفتح سجل التكامل والتواصل ما بين فنه القديم وفنه الجديد، وأساطيره السابقة في جلجامش وسواها، مع مختاراته المستعارة من فصول "ألف ليلة وليلة" وليالي الفنان التشكيلية، ومعالم شخوصه المرتسمة ومفرداته التعبيرية، عِبر (شهريار الملك، وشهرزاد الأميرة الراوية والضحية، السندباد البري والبحري، الجواري، عبد اللـه البري، الشاطر حسن، السبايا، العفريت والصياد، الأفعى، الحمّال، حورية البحر، الحمامة، الحّمال)، وما يتخللها من مغامرات ومخاطر، وليالي مجون وتعب وخوف. تنبش ركام قراءاته الشخصية ومُطالعاته الثقافية المتوالدة من رحم ذاكرة المكان العربية المسورة بأطواق الحكاية والأسطورة، ينقلها الفنان في مراحل متعاقبة، عبر تجلياته البحثية على ورق التأليف الأولي ولحظة عبوره إلى مفاعيل مختبره الفني. مبتداه فيها رسوم سريعة على الورق، ومعاينة بصرية لمكوناته وتعديل مسارات الفكرة المشتهاة. ومن ثم المباشرة الطلقة باللون على سطوح الخامة، التي يتملك فيها ناصية أفكاره وأدواته، والقبض على مقاليد الكتلة والسطح والفراغ والسباحة الخطيّة واللونية في تداعيات الفكرة، وسبر رحابة التجلي، وطريقته في رصف طقوسه الجمالية الحاشدة بالتشويق والإثارة. لوحاته ذات صبغة تعبيرية واضحة القسمات، متوالدة من ذات الفنان الباحثة عن مشروعها الدائم في متن الحكاية الشعبية، والأساطير التي عايشت المعمورة منذ تشكل الخليقة وحتى يومنا المعاش، محددة مكانة وموقع الإنسان في حدوثها وصناعتها على مر العصور، يصوغها بحسه المرهف وذاكرته البصرية القادرة على التوليف والتأليف، وتوصيل جماع الفكرة والتقنية في مقطوعات موسيقية ملونة، ذات محمول جمالي ومعنى إنساني، سابحة في أتون الخطوط والمساحات الملونة، تعزف قصيدتها ونشيد إنشادها البصري على مقاطع مُستعارة – كما سبق وأشرنا - من قصص ألف ليلة وليلة، المسرودة على طريقة الفنان "سعد يكن"، وندخل متنها كجمهور فن وتلق طواعية وصولاً إلى جواهر نصوصها، مُحدثة في أبصارنا وعقولنا حالة من الاندهاش والإعجاب، نفاذاً أخاذاً لبصرنا وبصيرتنا، وإعادة محمودة لمفاتن حكايات ألف ليلة ليلة، محاولة منا لمسك ناصية نصوصها تلمس مفاتيح أسرارها، وبالتالي التوصل لمدارات الفنان وفهمه وأسلوبه وخياراته المتعددة في خلق عالمه الفني كخصوصية تعبير فني وتقني. لوحاته المسكونة بالحركة والسكون في آن معاً، والحبلى بالعناصر الآدمية داخل أسوار التكوين، والخلفية المحيطة، هي لسان حاله الفكري وبيانه البصري، ومقولته الفصل في استكمال دورة بحثه الفني الدؤوب، ومجاله الحيوي في اختيار مفرداته وعناصره التشكيلية، واستخدام وظيفي لأدواته، ورسوخ لموهبته ودربته كفنان قادر على تطويع خاماته وأفكاره في اتجاهات بصرية هو يُريد لها أن تكون، وهي أشبه بسلسلة من المقولات مربوطة بخيط إبداعي واحد، يصل بصاحبه إلى تأسيس خصوصية تعبيرية، وتفرد تقني لم يسبقه إليه أحد.