تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


رحلـــة ســــــحر موســـيقية

ملحق ثقافي
25/3/2008م
مكسيم عبد اللطيف

يومي الجمعة والسبت الماضيين كان لقاء الموسيقي التونسي أنور براهم مع الجمهور السوري في دار الأسد للثقافة والفنون ضمن إطار احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية.

أنور براهم التونسي الأصل ذو 51 ربيعاً مؤلف وعازف عود يتمتع بشهرة عالمية أنتج إلى الآن عشر ألبومات كان أولها (برزخ) في 1992 والأخير (رحلة سحر) 2007 الذي منه قدم عشرة قطع أمتع فيها الجمهور السوري الذي ملأ قاعة مسرح الدراما حتى آخر كرسي .‏

على بروشور الحفل ظهرت صورة المؤلف وتحتها عنوان الحفل (رحلة سحر) وبعد أن أطفِأت الأنوار وصمت الجمهور ظهر أنور مع العود وفرانسوا كورتيه الذي اتجه إلى البيانو وجان-لوي ماتينييه مع ألة الأكورديون. من الناحية النظرية نحن أمام تريو (فرقة موسيقية مكونة من ثلاث آلات) ويفترض بالتريو أن يكون متجانساً من حيث الطبيعة الصوتية للآلات كي تكون المادة الموسيقا متجانسة مع نفسها، فبدت التوليفة غريبة من حيث تشكيلتها، والعود الذي حاصرته آلتان غربيـَّتان لم يحاول أن يبرر نفسه، ولم يدخل في منافسة ولا مباراة لإثبات الوجود. على العكس فمن الثواني الأولى التي بدأ فيها الموسيقيون بالعزف زالت كل تلك الغرابة، أمّا الشك حول طبيعة الانسجام ما بين الآلات الثلاث تبخر أمام سحر الموسيقا. بدا وكأن أنور كان عند وعده تماماً، لم ننتظر كثيراً حتى اختفى من أمامنا المكان والمسرح والأضواء على العازفين وانتقلت أرواحنا حقيقةً إلى (رحلة سحر) في مناخ موسيقا يسكر العقل بدوامات من ألحان عذبة وارتجالات ممتعة. عناوين القطع كانت كإشارات وعناوين تدلنا بتلميحات ذكية إلى تفاصيل العالم والمزاج الذي نجول فيه (فجر، نوبة، على النهر...). الموسيقا أصيلة إلى أبعد الحدود, رغم أنها نادراً ما ترتكز على المقامات العربية في الألحان والإرتجالات، لكن الروح الشرقية حاضرة في كل لحظة وحتى النهاية. تتجلى أصالة القطع في طريقة عزف البيانو والأكورديون اللذان يعكسان المعنى ذاته الذي يفصح عنه العود، فلا تبدو هذه الآلات الغربيَّة دخيلة ولا مُـقحمة، بل وكأن البيانو والأوكرديون قد اختبرا "الحالة" نفسها، لهما نفس رأي العود بها، ويصفانها كلٌّ بكلماته الخاصة. ما يميز أسلوب أنور براهم ليس الاتكال على الألحان الجميلة وحسب، بل القدرة على إظهار جمال هذه الألحان من كل الزوايا حتى النهاية، بالتوزيع والمرافقة والأداء. بنية القطع أقرب إلى موسيقا الجاز، حيث يـُعزف اللحن الأساسي ومن ثم تتناوب التنويعات والارتجالات عليه. تبدأ القطعة إجمالاً بلحن جميل هادئ رصين أقرب إلى التأمل والسوداوية، غالباً ما يستهله العود بأداء عاطفي من قبل أنور، الذي لا يملك نفسه أحياناً من أن يدنن اللحن بصوت خافت، مثل من يغلبه الوجد فيبوح بما به دون دراية. من ثم تتبعه مرافقة الآلات الأخرى التي تتناوب على عزف اللحن ذاته وتطويره، البيانو يُغنيه بالأكوردات (مجموعة من أصوات تعزف في وقت واحد) وهارمونيات أقرب إلى الموسيقا الانطباعية وأداء يذكرنا بموسيقا كلود ديبيوسي خاصة في قطعة (فجر). صوت آلة البيانو أعلى بكثير من صوت آلة العود وبعيدة عنها من حيث جرس وطابع الصوت، لكن الموسيقا المكتوبة وأداء فرانسوا كورتيه جعل من انسجام الآلتين طبيعياً وعضوياً. هذا ينطبق على جان- لوي ماتينييه عازف الأكورديون الذي يرتجل أحياناً على بطابع موسيقا الشعبية لجنوب فرنسا وأحياناً على الموسيقا الباروك (موسيقا أوربية سادت بين 1600-1750)، ففي قطعة حدائق زرياب الارتجال طال أكثر من 5 دقائق انفجرت بعدها الصالة بالتصفيق وصرخات الإعجاب. لقد تحولت هذه الآلة الشعبية بين يدي هذا العازف الموهوب إلى أورغن يؤدي مقاطع بوليفونية (متعدد الألحان) تذكر بفوغات باخ، من جديد الترابط العضوي الذي يجمعهم يجعلك تشعر بأن هذه الآلات وجدت كي تؤدي هذه القطع بالذات. الذي يأسرك في موسيقا أنور براهم أنك لست مضطراً أن تكون محترفاً أو موسيقياً متعمقاً كي تتفاعل روحك مع ما يقدم لك. فلا يمكن إلا أن تتأثر وبعمق أمام صدق ما يصلك منها. في الحفلة كلها لم تمر جملة موسيقية واحدة بعيدة عن المناخ العام، لم تمر جملة واحدة غريبة أو غير منسجمة! فبالإضافة إلى جمال اللحن والأداء (الذي يكفي بهما أن نقول أن الحفلة ناجحة) كان هناك الروح الفنية العالية. أثبت لنا هذا الحفل أن ما يقدمه أنور براهم لنا ليس كيمياء من الآلات ولا تجربة لمزج الشرق مع الغرب. هنا كان الهدف هو الموسيقا وفقط الجمال الحقيقي النابع منها. على سذاجة هذه الجملة ولكن ما قدِّم ذكرنا بالهدف الحقيقي للفن حيث الجمال يخترق الجسد وينير الروح التي تبدو وكأنها ولدت للتو. لا وجود للصراع المبادئ، لا وجود لحوار الثقافات ولا تقارب بين الشرق والغرب ولا تعارف ولا غير ذلك... كل هذا بدا فارغاً وعقيماً أمام ما تسمعه، وانفتح الرمز وراء أسماء القطع (قرطبة) (حدائق زرياب) (صيف أندلسي) و(رحلة السحر) التي ليست فقط قطعة من بين القطع إنها عنوان الحفل وهي رمز إلى رحلة إلى إسبانيا في القرن الحادي عشر عندما كانت الأندلس ومدنها وحدة حضارية، مكاناً يعيش فيه الجميع الكل بسلام ورخاء في إحدى أفضل الأزمنة التي أثبتت أن الفرق ما بين البشر ليس سوى لغة يمكن تجاوزها وأحياناً نسيانها تماماً بعزف الموسيقا.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية