تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


المطــرود

ملحق ثقافي
25/3/2008م
د. منذر شباني

«بقرار الملائكة وحكم القديسين نحرم ونلعن وننبذ ونصب دعاءنا على باروخ سبينوزا بموافقة الطائفة كلها.

وبوجود الكتب المقدسة ذات الستمئة وثلاثة عشر ناموساً المكتوبة بها، نصب عليه اللعنة وجميع اللعنات المدونة في سفر الشريعة. وليكن ملعونا نهاراً وليلاً، وفي نومه وصبحه، ملعوناً في ذهابه وإيابه، وخروجه ودخوله، ونرجو اللـه أن ينزل عليه غضبه وألا يتحدث إليه أحدٌ بكلمة أو يتصل به كتابه، وألا يقدم له أحد مساعدة أو معروفاً وألا يعيش أحد معه تحت سقف واحد، وألا يقترب منه أحد على مسافة أربعة أذرع، وألا يقرأ أحد شيئاً جرى به قلمه أو أملاه لسانه». تلك هي الكلمات التي تلفّظ بها المجلس الملّي، أما المكان الذي تُليت فيه فهو كنيس في امستردام (هولندا)، وأما الزمان فقد كان القرن السابع عشر، وباروخ سبينوزا الوارد ذكره، والواقع عليه الحرم واللعن هو الذي سيغدو أعظم فلاسفة الأزمنة الحديثة، وهو الذي وقف في ظلام ذلك الكنيس ليتلقى قرار الطرد نهائياً وإلى الأبد من الطائفة، ومنذ تلك اللحظة (المظلمة) توجب على سبينوزا أن يعيش مطروداً وملاحقاً، وأن يُعامل بوصفه ملحداً من (الطبعة الجديدة) على حد التعبير الذي كان سائداً في عصره. ومنذ ذلك الوقت أيضاً، سوف تتناول المؤلفات والكتابات هذا ( الفيلسوف المطرود) بأشد العبارات قسوة وتهكماً فتحت عنوان (طائفة الدجالين) سيكتب كريستيان كوتيلي في القرن السابع عشر واصفاً سبينوزا، باعتباره المخرّب المنقطع واللعين الرجيم، وأنه سليل الجنس البغيض الذي أثار على نفسه سخط قومه فطردوه، والذي يُمضي حياته في عزلة وانفراد، غير ملقٍ بالاً إلى المتعة والشهرة والمال، وبأنه (أي سبينوزا) كان شائكاً كما تغدو أرض لعنها اللـه شائكة، منهياً كوتيلي المؤلف حديثه عن سبينوزا بالقول: بأنه إذا كان الإلحاد قد توّلد من النهضة الايطالية واستشرى بواسطة ماكيافيلي وأرتيان وفانيني، وإذا كان هربرت شريري وهوبز أعظم الذائدين عنه، فإن سبينوزا ولاشك كان أكثرهم شؤماً. عاش سبينوزا حياته على حد السيف إذن، وبعد أن تقيأته طائفته لم يكن أمامه سوى العزلة، لينضم بأفكاره وفلسفته ومآسيه إلى تاريخ الفلسفة، هذا التاريخ الذي كلما تعاظم فيه الفهم جُوبه بتاريخ مضاد، وهو تاريخ عدم الفهم، وتلك هي المفارقة، ففي الوقت الذي تحاول فيه الفلسفة أن تقدم فهماً للأشياء والموجودات، تجد نفسها غير مفهومة، وفي الوقت الذي تحاول فيه أن تبحث في قوانين العالم الحقيقي وأن تدعو الجميع إلى الانتماء معها إلى هذا العالم، فإنها تجد نفسها مطرودة وملاحقة ومنبوذة. وسبينوزا (المطرود) على النحو الذي رأينا لم يكن إلا ضحية تاريخ (عدم الفهم) هذا.. وإذا كانت الفلسفة هي الفلاسفة أنفسهم فقد توجب على هؤلاء أن يدفعوا ثمن (عدم الفهم). فالفيلسوف رجل لاتفهمه القبيلة، وهي لأنها لاتفهمه تنظر إليه كخارج عليها، وتالياً لايكون أمامها، والحال كذلك، سوى الإلقاء به خارجاً، وهذا بالضبط ما جرى مع سبينوزا، وعلى ما يبدو أن اختيار طريق الفلسفة هو بالدرجة الأولى اختيار (الطرد) من القبيلة. والفيلسوف الذي يقرر أن يغدو كذلك، وأن يفهم ويرى غير ماتفهم وترى قبيلته، يدرك جيداً أنه باختياره لعملية الفهم تلك يكون قد اختار الوقوع ضحية (لعدم الفهم)، وفي حالتنا هنا، فإن سبينوزا كان قد وعى جيدا أنه لن يُفهم من قبل القبيلة (الطائفة) وقد عبّر عن مخاوفه تلك، في مقدمة «رسالته اللاهوتية السياسية» عندما كتب « أعلم أنه يستحيل تخليص نفوس العامة من الخرافة والخوف، فالعناد شيمتهم، إذ لا يحكمهم العقل بل يسيرهم الانفعال في إصدار المدح واللوم، لذلك فإني لا أدعو العامة أو من يسيرون على هوى انفعالاتهم إلى قراءة هذا الكتاب، وإنه الأفضل لي أن يتجاهلوه تماماً من أن يؤولوه تأويلاً خاطئاً كعادتهم دائماً، ذلك أنهم لن يستفيدوا منه بل سيجدون فيه وسيلة لإيقاع الشر والإساءة إلى بعض الفلاسفة الأحرار». يوضح هذا النص المحنة التي عاشها سبينوزا، لشخص يقدم فهماً للأشياء لم تألفه العامة، وهو نص محمّل بكمٍ هائلٍ من الاحساس بالمأساة، على الرغم من لغته التي تبدو لغة متعقلّة. والمأساة هنا تأتي من أن ما يتخذ لدى العامة صفة (عدم الفهم) يشكل بالنسبة لهؤلاء غير المفهومين نوعاً من المأساة.. ومأساة سبينوزا وتالياً طرده من الطائفة اليهودية إنما أتت من أن الحاخامات والعامة لم يفهموه، فالتهمة التي واجهها سبينوزا تتلخص بأنه «جسّد اللـه» وسبينوزا المتهم بهذه التهمة هو غير سبينوزا الحقيقي والذي تحدث مدافعاً عن نفسه وآسفاً على أنه لم يُفهم حق الفهم فكتب نصاً فيه الكثير من الأسى والاستياء قال فيه: إني أتصور اللـه والطبيعة في صورة تختلف عن الصورة التي يصورها المسيحيون المتأخرون عادة، لأنني أعتقد أن اللـه هو الأصل وليس الطارىء، وأن اللـه هو السبب لجميع الأشياء. أقول إن كل شيء كامن في اللـه، وكل شيء يحيا ويتحرك في اللـه، وإنني متفق في هذا مع الرسول بولس، وربما أكون متفقاً مع كل واحد من فلاسفة القديم. على الرغم من أن طريقتي تختلف عن طريقتهم، وقد أجرؤ على القول إن رأيي هو الرأي نفسه الذي جاء به العبرانيون في القديم، وعلى كل حال فقد أخطأ فهمي أولئك الذين يقولون إن غرضي أن أُبين أن اللـه والطبيعة شيء واحد والقائلون بهذا يفهمون من لفظ الطبيعة كتلة معينة من المادة المجسدة، إنني لا أقصد ذلك». إذا كان سبينوزا بنظر نفسه لايختلف عن العبرانيين في تصوره للـه، فلماذا طرده العبرانيون؟ وإذا كان قد رأى أن كل شيء كامن في اللـه وكل شيء يحيا ويتحرك في اللـه، فلماذا طرده العبرانيون ؟ أليست رؤيا سبينوزا هي نفسها رؤية التوراة؟ ألا يقول التوراة (به نحيا وبه نتحرك وبه نموت)؟ تتلخص الإجابة على كل هذه الأسئلة: بعدم الفهم.. وإلا كيف يمكن قبول اعتبار الفيلسوف الذي يقول «الكل هو اللـه واللـه هو الكل» ملحداً. ما الذي يمكننا قوله بعد ذلك؟. ومن الذي يتحمّل تبعات عدم الفهم المشار إليه، الفلسفة أم العامة، الفيلسوف أم القبيلة، سبينوزا أم رجال الدين، فهل يتحمل سبينوزا تلك التبعات بسبب خصوبة المعنى لديه، أم رجال الدين (الحاخامات) الذين رؤوا فيه شخصاً يتطاول على موضوع محرّم على غيرهم تناوله؟ وتالياً هل يكون الحاخامات قد عجزوا عن فهم سبينوزا وموقفه من الدين فعلاً، أم أنهم لم يحاولوا فهمه مع سبق الإصرار والترصد؟ من الأفضل أن يكون ما حدث بسبب عجزهم فعلاً عن الفهم ذلك أفضل لسبينوزا وللفلسفة عموماً، ذلك أفضل لأن عدم الفهم قاد إلى الخوف والخوف قاد إلى (الطرد) وعلينا بالمقابل أن نبرىء سبينوزا من تبعات عدم الفهم، فعلى الرغم من خصوبة المعنى في فلسفته إلا أنه لم يترك مجالاً في كتابه (الأخلاق) للبس وخلط المعاني، فالكتاب المذكور مكتوب بلغة الهندسة والتعريفات جزء مهم في نسق القضايا والمقدمات والنتائج التي كُتب فيها كتاب الأخلاق. ما يعني أن سبينوزا حاول قدر الإمكان أن يكون مفهوماً، فهو لم يترك مصطلحاً استخدمه إلا وقدم له تعريفاً يجلو عنه الغموض، ولكن إيغال سبينوزا في الإيضاح جعله وللأسف أكثر غموضاً . كما أن استخدام سبينوزا للمنهج الرياضي (الاستنباطي) في كتابة فلسفته معتقداً أنه أكثر قدرة على إيضاح مراميه ومقاصده أدى به إلى عكس ما اعتقد وظن. وبدلاً من أن يكون سبينوزا صديق الجميع وجد نفسه عدواً للجميع. وبدلاً من أن تُفهم فلسفته على أنها فلسفة مُنتشية باللـه وبالحب العقلي للـه، فإذا بفلسفته توصف بالكفر والزندقة والضلال. وعوضاً عن قراءة تلك الفلسفة بأنها محاولة لتحرير البشر من الخوف والأوهام، فإذا بها تتحول هي نفسها إلى مبعث على الكوابيس والخيالات المرعبة، ولم ينتبه أحد إلى العبارة التي قال فيها سبينوزا مقتفياً آثار المسيح، بأننا لانستطيع أن نهزم الكره بالكره بل إن هزيمة الكره لاتتم إلا بالحب وأن الأفئدة لاتُهزم بالسلاح . لم يفهم أحد من المعاصرين سبينوزا، وهذا شأن الفلسفة دوماً، ولكن على نحو أقل قسوة وتعسفاً مما جرى مع سبينوزا الذي عومل كما لو أنه مُصاب بالجُذام فعاش وحيداً ومطروداً وخائفاً، وقد انتظر العالم قروناً طويلة حتى انتصب تمثال لسبينوزا في الشارع نفسه الذي عاش فيه مختبئاً، وربما اعتقد سبينوزا أن يوماً سيأتي ينصفه فيه العالم ويُنصف فلسفته وأن يُقام له تمثال يخلّد ذكره بالإضافة إلى فلسفته، ولكن ما الذي اطلع عليه وهو على قيد الحياة؟ تقول المصادر أنه اطلع على قصيدة تصوّر قبره بشاهدة تقول: هذا ضريح سبينوزا فابصقوا عليه.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية