لاسيما حين تكون الإدارة العالمية فيه بيد قطب وحيد منفرد, ولايرغب بمشاركة أحد في صناعة القرار العالمي, أو رسم استراتيجيات التوجه الجديد, في المراحل الجديدة.
وعليه فقد انتظر المجتمع الدولي كلمة التنصيب الثانية للرئيس بوش الثاني بترقب شديد من منظور أن تحديد السيرورة القادمة للحياة العالمية لابد أن يتوقف بهذه الصورة أو تلك على الرؤية الاستراتيجية المحددة في مفردات الكلمة المعنية, خاصة بعد كل ما حملته لوحة الولاية الأولى من حرب عالمية على الإرهاب الدولي, لم يكن فيها حرب سوى على ضحايا الإرهاب الدولي, وبقي صانع الإرهاب الحقيقي في الأراضي العربية المحتلة خارج كل حساب دولي, بل أطلقت يده في ممارسة أبشع صور العنصرية, والفاشية, والعدوان ومن المعروف أن ما كان يحرك في الذات الإنسانية للأمم المعاصرة انصب بادىء ذي بدء على توقع أن تقوم الإدارة الأميركية الجديدة بمراجعة كافية للحصول منها على واقع العالم بعد انقضاء الولاية الأولى, ووقائعه المعيشة على أثر استراتيجياتها التي فرضتها حوادث الحادي عشر من أيلول ,2001 وبأسبابها, ونتائجها دخل العصر بمتغيرات ادعتها أميركا أنها ستعيد البناء الحقوقي, والسياسي, والثقافي, والنفسي للشعوب التي لاتزال واقعة في إطار غياب الديمقراطية, وحقوق الإنسان, وتأخر المستويات المعاشية للإنسان بما يؤهله دوما للمزيد من الانكفاء, والتراجع, والتعصب والتطرف.
وعلى مدى السنوات الثلاث التي أعقبت حوادث الحادي عشر من أيلول, والحروب التي شنتها أميركا في أفغانستان, وعلى العراق, وما رافق ذلك من سياسة تدخلية في الشؤون الداخلية للأمم كافة تحت حجة الأمن القومي الأميركي الذي تأسس من جديد وفق وثيقة الأمن القومي للحرب على الإرهاب الدولي وتجفيف منابعه ومتلازماتها في خطاب القوة الاستباقي الذي عكر العلاقات الأممية, وشوه سنن العمل الأممي, ووضع الأمم المتحدة, وكافة مؤسسات الشرعية الدولية تحت مظلة الضغط الأميركية لفرض طاعة عالمية للمصالح القومية الأميركية بالمنهج الهيمني الذي لايعتبر مصالح الشعوب بأنها يمكن بحال من الأحوال أن توازي شيئا من مصالح القوة الامبراطورية الأهم.
وبناء عليه اهتزت حالة الأمم في وطنياتها, وشخصياتها, وخصوصياتها, وهوياتها واقترب الحال الدولي من دخول إرهاب عالمي واضح, ومقصود من أميركا القطب الامبراطوري المهيمن تحت معادلة من ليس معنا فهو مع الإرهاب ولاسبيل لموقف ثالث.
أو وسطية, وكم كانت جائرة هذه المعادلة بحق العدالة الدولية, أو بحق الأمم التي لها طريقة مغايرة لمثل هذا الفهم الأميركي للإرهاب في مسبباته, ونتائجه, وتحولاته الممكنة, وإذ أصبحت صورة العالم على هذا الحال, وعانت أمم مختلفة من عصبية النظرة الأميركية عند المحافظين الجدد وصقور الإدارة الأولى للرئيس بوش, وصار الذي لم يعرفه تاريخ العالم من اختراقات للسيادة, وللمشاريع الوطنية وللخارطة, ولأحلام البشر فمن الطبيعي أن ينتظر المجتمع الدولي كلمة التنصيب الثانية للرئيس بوش الثاني, والأمل, والاحتساب كلاهما محشوران في المربع الأول للعبة الدولية المتوقعة على ضوء ما سيقال.
ومن أغرب ما أصبحنا نستمع إليه في الخطاب الأميركي الراهن هو هذا الربط للدور الرسالي الأميركي المليء برائحة الهيمنة, والتحكم, والانفراد, بالإرادة اللاهوتية في وجه كهنوتي يثير الاستغراب من دولة تدعي العلمنة وتدعو العالم للعلمانية في وقت لاتلزم فيه نفسها بأي شيء من هذا.
وما تم التعرف إليه بعد نجاح الرئيس بوش في ولايته الجديدة حسبما حدده المعهد الاستراتيجي الأميركي بيور يسيرتش يشير إلى أن الناخبين الذين يترددون إلى أماكن العبادة أكثر من مرة أسبوعيا هم الذين أعطوا أصواتهم للرئيس الجمهوري بوش الابن بنسبة 64% في مقابل 35% منهم أعطوا المرشح الديمقراطي جون كيري.
ومن هذا المستحصل ألا يمكن للباحث أن يتلمس حضور التيار الديني بقوة في الحياة الأميركية الذي تقاوم أميركا حضوره عند بقية أمم الأرض?!
وتأسيسا على عقلية التيار الديني جعل الرئيس بوش الثاني أولوية الأمن القومي للسياسة الخارجية لأميركا فوق كل أولوية حتى ينتقل الرئيس بوش إلى إظهار صورة المكلف بتحقيق إرادة لاهوتية كهنوتية أفصح عنها بنشر الحرية في العالم, وتلطيفا لهذا النشر جعل حرية الأميركيين مرتبطة بحرية العالم.
وبذلك يريد الرئيس أن يكثف مشاعر الاعتقاد به بأنه مبعوث العناية الإلهية للدفاع عن الحرية ولديه دعوة من وراء النجوم للدفاع عنها.
وبذلك تكون قضية نشر الحرية ربانيا قضية مرتبطة بأميركا.
ومن هذه الخصوصية سيمنح الرئيس نفسه فرصة تطوير مبدأ الحرب على الإرهاب الذي كان عنوان مرحلته الأولى إلى مبدأ الحرب على الطغيان الذي سيكون عنوان مرحلته الثانية.
وما وراء هذا التغيير يبدو واضحا لكل ذي بصيرة ذلك أن لافتة الحرب العالمية على الإرهاب لم تقنع عالمنا اليوم في شيء طالما أن الإرهاب الأميركي, والإسرائيلي صارا معا هما الإرهاب الدولي الوحيد, ولذا لابد من تبديل الشعار وتغيير الطيف السياسي المملول بما يمكن أن يفتح فرصة جديدة لإحكام اللعبة على الذهن العالمي.
وهنا يجاهر الرئيس بوش بقوله:(إن مزيدا من الجهد مطلوب من أجل حماية أميركا, ونشر مثلها).
والملاحظة هنا ملفتة للنظر إذ إن أميركا مهددة, وهي لاتهدد أحدا, ومع ذلك مطلوب منها نشر مثلها, ولكي لاتتضح صورة نشر المثل بأنها ستكون بصيغة التدخل, أو الانفراد يدعو الرئيس حلفاء أميركا لافتا إلى أن الانقسام بين الأمم الحرة هو الهدف الأساس لأعداء الحرية.
ويريد الرئيس هنا أن يسوغ للخسائر الكبيرة التي تمنى بها أميركا في أفغانستان, أو العراق بقوله:( إن استمرارالحرية في بلادنا يعتمد على نجاح الحرية في بلدان أخرى.)
وحين سيعتبر هذا النجاح بمثابة رسالته المستمرة فإن الحال سيكون في مرحلته الثانية أشد مما كان عليه في المرحلة الأولى حيث إن نهج التدخل لم تعد له تخوم هذه المرة, فالطغيان قضية مجردة, ويمكن فهمها, وتفهيمها بصورة مختلفة, ويمكن النظر إليها من مواقع مختلفة طالما أن النضال الوطني من أجل التحرر صار إرهابا ضد الدولة المستعمرة الغاصبة ,وحين نعود إلى استنتاجات المعهد الاستراتيجي الآنف الذكر بيور يسيرتش, وأقوال مديره أندروكوهوت حيث قال:(قبل 11 أيلول ارتبطت وجهات النظر حول الحكومة, والمواقف الاجتماعية, وشبكة الأمان الاجتماعي بالانتماءات الحزبية, أما اليوم فإن الأمن القومي الذي أصبح يحدد المواقف السياسية للإدارة الأميركية متقدما على الاقتصاد, والاجتماع, فهذا الأمن القومي يقزم كافة القيم).
ومن الواضح أن كافة استطلاعات الرأي التي تجريها مراكز البحث الأميركية تؤكد على حقيقة أن المهارة في العمل الديبلوماسي أفضل بكثير من نهج القوة, والتدخل, والاستباقية العدوانية, ومع ذلك لا نجد آذانا صاغية عند من يتخذ القرار في الإدارة الأميركية.
وبناء عليه سنجد أن كتاب (طريقنا من بغداد) لمؤلفيه:
ويليام كريستول, ولورانس كابلان, والكاتبان يعتبران الآن من أركان الإدارة الأميركية الحالية للرئيس بوش الثاني.. وما يعرضه الكتاب يؤكد على وجوب تنفيذ محتوى وثيقة الأمن القومي لأميركا التي صيغت بعد حوادث أيلول ووضعت نصب العين الحاكمة من الإدارة حينها,والآن الأهداف التالية: الحرب الوقائية, تغيير الأنظمة, توطيد الهيمنة على العالم.
وعلى هذا الأساس جاء خطاب الرئيس بوش في ولايته الجديدة مؤكدا عبر الحرب على الطغيان على الانتقال من سياسة الاحتواء, إلى سياسة التدخل المباشر, إلى سياسة تغيير الأنظمة ولو بالقوة, والاستمرار في تسمية: دول الشر, والدول المارقة, ودول الطغيان.
وبناء عليه فقد يكون من الممكن لنا أن نردد مع الكاتب الروسي الذي قال: هل تكون ولاية بوش الثانية فيلما مرعبا?!
نحن في الأمة العربية إذا كان ذلك كذلك فسنكون أكثر إيلاما من هذا الفيلم, فهلا انتبهنا إليه وحمينا بلادنا من سيناريوهاته?!!