هل المسألة عدم اكتراث بالمواطنين و إحدى حاجاتهم الأساسية .. أم عدم اكتراث بخطورة الهواء الملوث الذي يتنفسه الجميع بمن فيهم أصحاب السيارات الخاصة الفارهة?
هل أصبحت عقدة النقل الداخلي في المدن مستعصية الحل الى هذا الحد ., وهل أصبحت مجالاتها مركبة لدرجة يصعب ترتيب أولوياتها .. فهناك جانب يتعلق بتلوث الهواء وهو المؤشر الأخطر ..
وجانب اجتماعي يتعلق بتلبية حاجات الناس في التنقل داخل المدن وبأسعار تتناسب مع القدرة الشرائية لهم .. وجانب اقتصادي يتعلق بتحقيق ربح منطقي لوسائل النقل الداخلي العامة سواء أكانت خاصة أم تملكها الدولة ... وجانب رابع يتعلق بنوعية الوقود المستخدم من بنزين أو مازوت أو غيرهما ومدى صلاحيته بيئياً وسعره الاقتصادي المناسب ..وجانب أخير يتعلق بحركة المرور وإدارته التي تستوعبها الطرق الضيقة وتؤمن سرعة انسيابها بكل الاتجاهات ..فأين الحلول المتكاملة لكل هذه الجوانب ?
يبدو أنه لاحلول علمية وعملية في جعبة المسؤولين عن النقل .. ويبدو أنهم لم يدرسوا جيداً الواقع .. أو أنهم يعرفونه لكنهم غير قادرين على فعل أي شيء أمامه .. ولهذا جاءت أقوالهم في واد وأفعالهم القليلة في وادٍ آخر ....
وإلا فكيف اتخذوا قراراً اعتباراً من منتصف هذا الشهر لتشغيل باصات النقل الداخلي المنسية والتي يزيد عمرها عن ربع قرن على ستة خطوط رئيسية في مدينة دمشق .. وأما السرافيس التي كانت تعمل على هذه الخطوط فأحدثت لها خطوط جديدة داخل المدينة يزيد عددها عن الخمسين خطاً .. فأين الحكمة من ذلك .. وأي منطق هذا لخنق شوارع المدينة التي لاتحتمل أصلاً بعدما استباحتها الآلاف المؤلفة من مختلف أنواع السيارات وموديلاتها لا سيما سيارات التكسي التي تفيض عن حاجة المدينة وتلوث هواءها وتهدر وقتها . بحثاً عن زبائن لتعرقل المرور بغير حساب .
مقارنة سريعة
ويقتضي الحل المتسرع إضافة لتشغيل الباصات المهترئة باستيراد نحو 600 باص جديد على دفعات لاحياء شركة النقل الداخلي !
وبحسبة بسيطة نجد أن هذا الحل لايفي المطلوب بغض النظر عن الآ ثار البيئية والاجتماعية, فعدد السرافيس العاملة حالياً على خطوط النقل الداخلي بدمشق وريفها يزيد عن العشرة آلاف سرفيس وكل سرفيس ينقل 14 راكباً .. وهذا يعني أن عدد الركاب الاجمالي يزيد عن /140/ ألف راكب للرحلة الواحدة , بينما الباصات ال¯ 600 تنقل 36 ألف راكب فقط بفرض أن كل باص ينقل 60 شخصاً (جلوساً ووقوفاً ) ويضاف الى ذلك أن السرافيس سريعة التنقل ويتيح لها ذلك القيام برحلتين على الخط مقابل رحلة واحدة للباص , عدا عن كونها تعمل ليلاً نهاراً دون انقطاع في أغلب الخطوط وبجدوى اقتصادية جيدة بينما الباصات ستبقى خاسرة رغم أنها تعمل على وقود المازوت أيضاً وليس البنزين ...
وبالطبع غايتنا من هذه المقارنة ليس ترجيح وسيلة على أخرى ,إنما لندلل على أن الحل المطروح غير عملي وقاصر وأبسط الحلول تقتضي استبعاداً نهائياً للباصات التي أكل الدهر عليها واستيراد /1500/ باص نقل جماعي حديث على الأقل ولا تلوث البيئة من خلال تشغيلها على الغاز الطبيعي أو حتى على الكهرباء كما هو متبع في المدن العالمية إذا كان ذلك مجدياً اقتصادياً ...
وهذه الخطوة لا بد أن تكون في سياق خطة استراتيجية لمنظومة النقل والمرور تراعي إقامة انفاق وجسور للسيارات وإنشاء مترو أنفاق أو مترو سطحي بما يشجع الناس على هجر مراكز المدن وتركها للأسواق والدوائر الحكومية والإقامة في الضواحي بمساكن ذات مساحات شاسعة فيها كل مقومات الحياة الهانئة في أحضان الطبيعة الخلابة ..
حقائق لا يمكن تجاهلها
نشير أخيراً وليس آخراً .. الى أهمية عدم نسيان البعد البيئي بعيد الأمد و المستدام وإعطائه الأهمية القصوى عند اختيار الحلول لأي جانب من جوانب النقل الداخلي في المدن وذلك من خلال إدراك الواقع الراهن والنتائج الكارثية لتلوث هواء المدن إذا استمرت بنفس المعدلات الحالية..
وفي هذا السياق تؤكد الاستراتيجية الوطنية للبيئة أن البيئة في المدن المكتظة بالسكان ولا سيما دمشق وحلب واللاذقية ,تحولت الى بيئة ملوث هواؤها بالغازات والعوالق والمواد الهيدروكربونية والدخان والرصاص والضجيج وغيرها وإن وسائل النقل هي المسؤول الأول عن ذلك ..
وانعكس تلوث الهواء بأضرار فادحة على صحة السكان ونشاطهم وفي قدرتهم على العمل في هذه الظروف الصعبة, وانعكس ايضاً على الأوابد الأثرية ومواقع التراث الحضاري, وما ساعد على تدهور نوعية الهواء هو انخفاض مساحات المسطحات الخضراء والحدائق والمتنزهات فحصة الفرد منها ما زالت متواضعة وتقدر بنصف متر مربع فقط في دمشق ويفترض أن تزيد كحد أدنى عن المترين مربعين, أي أننا بحاجة الى مضاعفتها أربع مرات على الأقل, و كأمثلة عملية على نتائج تدني نوعية الهواء نذكر مثلاً ارتفاع نسبة الشكايات المرضية في مدينة دمشق القديمة وفقاً للفحوص الطبية وتخطيط السمع ووظائف الرئة أشارت وزارة الصحة عام 1995 أن إصابات الجهاز التنفسي في المناطق الملوثة يفوق مثيلاتها في المناطق النظيفة بمعدل 3 الى 4 مرات ورغم أنه لا توجد احصائيات دقيقة عن الآثار السلبية لتلوث الهواء في المدن ولا سيما عدد الوفيات والمرضى والكلف الاقتصادية المرتفعة, فإنه يتوقع أن تكون ازدادت خلال السنوات العشر الماضية وساهمت في أمراض الربو والسعال والانتفاخ الرئوي وأمراض القلب وتصلب الرئة وبالتالي قصور في وظيفة الرئتين والقلب إضافة الى السرطانات والتهاب القصبات والسعال ولا سيما للأطفال.