إلا أن صدور هذا القرار كما يعتبره خبراء القانون الدولي والنظام الدولي الفاقد لأبسط قواعد المنطق والعدالة يشكل سابقة خطيرة ونقطة تحول هابطة جداً في الطبيعة القانونية والمؤسساتية لهذا النظام إلى درجة الانهيار والافلاس.
فالمحكمة الجنائية الدولية التي تتخذ من مدينة هاغيو الهولندية مقراً لها هي بالاساس هيئة دولية تم تأسيسها بمبادرات طوعية من خارج اطار الأمم المتحدة وبحسب القانون الدولي فإن هذه الهيئة ملزمة من حيث القانون للأطراف التي أقرت أو وافقت على تطبيق قراراتها أي التي وقعت على بنود تأسيسها حصراً. في حين أن الدول التي لم توقع على هذه الهيئة أو المعاهدة والمصادقة التشريعية عليها فإن قرارتها تعتبر غير ملزمة لتلك الدول اضافة إلى أنه ليس لهذه المحكمةالحق في الولاية أو الوصاية على تلك الدول التي لم توقع على تأسيسها أو لاختصاصاتها لتلك المحكمة.
واللافت للنظر أن الولايات المتحدة على سبيل المثال التي ظلت ترفض الانضمام أو التوقيع على هذه المحكمة مارست في نفس الوقت ضغوطاً على غيرها من الدول كي تنضم لهذه المحكمة منذ تأسيسها في 1/7/2002 اضافة إلى أن الدول الكبرى الأخرى رفضت الانضمام إلى اتفاقية هذه المحكمة وبنودها ومن أبرز هذه الدول روسيا والصين والهند التي لم تكتف برفضها الانضمام لا بل ظلت توجه انتقادات حادة لها ولطبيعة عملها ولا سيما من حيث كيلها المسائل والأمور بعدة مكاييل بما يخدم القوى المسيطرة عليها من قبل الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
والغريب أن هذه المحكمة التي تضم في عضويتها 120 دولة لم توقع ميثاقها من أصل تلك الدول سوى أربعين دولة لكنها إلى اليوم وهذه الدول الأربعين لم تقم أيضاً بإجراءات التصديق عليها تشريعياً وبالتالي هذه الدول وبحسب بنود ومواد القانون الدولي واتفاقية المحكمة نفسها لا تعتبر أنها أقرت الاتفاقية من الشكل القانوني وبالتالي لا يمكن لهذه الدول أن تمنح صفة عضوية الاتفاقية بالمعنى الالزامي للقانون الدولي الذي يفرض على عاتق هذه الدول الأربعين مسؤولية الالتزام الكامل بالمحكمة وبقراراتها وتوصياتها.
وعلى هذا فإن خلفيات تقديم الرئيس السوداني وفقاً للنوايا الاوروبية الامريكية الاسرائيلية إلى العدالة الدولية ليست هي جديدة وحديثة العهد، فالأمر يرجع إلى أكثر من خمسة عشر عاماً أي منذ تولي الرئيس البشير السلطة في عام 19٨9 حيث كانت حركة التمرد في جنوب السودان المدعومة من الغرب واسرائيل تشن حرباً انفصالية واستطاعت السيطرة على نحو 65 بالمئة من أراضي جنوب السودان التي تطالب اقتطاعه من السودان لكن الرئيس البشير استطاع وضع حد لهذه التطلعات الانفصالية عن الجسم السوداني ونجح الجيش السوداني في إعادة القسم الأكبر من الجنوب إلى الوطن الأم وبدأ مع ذلك في بناء تنمية شاملة بمدن وقرى جنوب السودان، الأمر الذي أدى إلى إيقاع أكثر من حركة تمرّد في صفوف المتمردين بالجنوب واضطروا جميعاً إلى سحب أكثر من سبعين بالمئة من قواتهم إلى عدد من الدول المجاورة للسودان ولا سيما كينيا وأوغندا.
أمام هذه النتائج القاصمة لحركة التمرد كان من الطبيعي أن يعمد الغرب واسرائيل اللذان يدعمانها إلى شن حملة إعلامية واسعة ضد الرئيس البشير.
كما دفعت الولايات المتحدة ودول الغرب في اطار مواز لتلك الحملات العدوانية ضد السودان بالمنظمات غير الحكومية الدولية ولا سيما بالأمم المتحدة والاتحاد الاوروبي لفرض عقوبات على السودان وضرورة تقديم رئيسه إلى العدالة الدولية في اطار سيناريو شبيه تماماً لسيناريو المحاكمات الدولية التي جرت ضد يوغسلافيا ورواندا وسيراليون وليبيريا لكن ذلك لم يثمر نجاحاً في السنوات السابقة لأسباب عدة أهمها فشل تلك الحملات لعدم وجود الأدلة والاثباتات القانونية لها ولمعارضة الزعماء الافارقة أيضاً وكذلك لتوقيع السودان لاتفاقية سلام مع الجنوبيين. وهذا ما دفع بأمريكا والغرب واسرائيل إلى تحويل المعركة باتجاه اقليم دارفور في اطار سيناريو جديد للايقاع بالرئيس البشير. وعلى هذه الشاكلة بدأت معركة الغرب عموماً واسرائيل مع السودان من دارفور التي يبلغ عدد سكانها ستة ملايين، نصفهم من ذوي الأصول العربية ويقطنون وسط وشرق دارفور والقسم الآخر من أصول إفريقية ويقطنون غرب دارفور وداخل الأراضي التشادية.