فإذا بنا أمام كنز حقيقي من الإبداع الذي يجعلنا نتساءل كم نحن مقصرون بحقهم أسماء كثيرة تستعيدها الذاكرة وتقف عند تجار بها الإبداعية من هؤلاء الشاعر علي محمد حسن الذي وقعنا على مجموعة شعرية له حملت عنوان «باقة من العبير واللهب» صدرت عن وزارة الثقافة عام 1975 وقد قدم لها الشاعر المرحوم حامد حسن.
ملامح وسمات
يقول حامد حسن في تقديمه لهذه المجموعة: هذا شعر يلفح عينيك وشفتيك بالوهج واللهب ويغمس يديك وأصغريك بالحمم والشواظ ويصل مسمعيك بالقصف والدوي ويترف وجدانك بمشاعر البطولة ويخصب عاطفتك بالأحاسيس القومية ويفجر في صدرك براكين الثورة ويشحن نفسك بالحقد -الحقد النبيل- ويحيلك من التواكل والاستكانة والانهزام إلى الزخم والتمرد والعملقة ومع هذه الخصائص مجتمعة ينفحك بموجات من الألق والعبق والعطور في انسياب وانسياق نغيم من الموسيقا الناغمة يختلف توتراً وحركية وعمقاً وامداداً تبعاً لتوفر الحس وتوهج الوجدان هذا الشعر لايساير الميوعة والمراهقة.
ولايستمرىء التخنث والانحلال إنه شعر الثورة في قضيتها وشعر القضية في ثورتها إنه شعر المرحلة.
هذا الشعر
ما مدرسته ؟؟ ما مناخه؟؟ إنه يجافي مدارس الفكر المثالي الخيالي الحالم الانطوائي كالرومانسية والرمزية والايمائية والسوريالية والفن للفن إنه يتسم بالواقعية -الواقعية الثورية- وترفده المدرسة الانطباعية بمعطياتها من صدق تصور وتصوير، ونقل واقع الحياة ببراعة وأمانة.
الواقعية الثورية حركة تاريخية بالاتجاه الصاعد للإنسان والحياة وهي وإن ارتبطت بالمادية -جدلاً وتاريخاً- تختلف بجدليتها أحياناً - وكما هو الحال في هذا الشعر- عن الواقعية الاشتراكية لأنها لا ترى فعل حركة الطبيعة في الطبيعة مساوياً لفعلها في المجتمعات.
فالحركة الاجتماعية في الواقعية الثورية ذات فاعلية إرادية لها وعي وإدراك وطاقات فهي والحالة هذه ليست مادية الوسائل والغايات بالمفهوم المطلق تسحق الفرد في سبيل الجماعة بل تعمل على تفتح الفرد وضبط سلوكه وتحركه في نظام الجماعة وضمن قوانين التطور الاجتماعي الواقعية الثورية تنصب على الحدث.
شعر المعاناة
ويضيف حامد حسن قائلاً: هذا الشعر يجب أن ندعوه بحق شعر المعاناة والمعايشة والانفعال والصدق عاشه الشاعر في خندقه في دبابته وراء مدفعه في لهب الصيف وزمهرير الشتاء.
عايشه هزيم صواريخ قصف مدافع، تشظي قنابل، نثار أشلاء، دخان بارود، عاناه هزيمة، عاراً، ترقباً، حقداً، ثأراً.
انفعل فيه جنوناً صوفياً توحدت فيه كل رؤى الحياة والوجود وأصبحت على تعددها رؤية واحدة ثلاثية الأقانيم الأمة- الوحدة -الثأر.
هذه الرؤية طمست كل الرؤى أو أحالتها وفق مبدأ «الإسقاط» والتبرير إلى رؤيا ورؤية واحدة.
حب المرأة
وحتى الحب- حب المرأة- وهو أعمق وأرسخ غريزة في الانسان والكوائن الحية، هذا الحب استحال من المرأة «السمراء» ذات الدل والخفر والغناج والميسان إلى دبابة «سمراء» قاصفة راعدة بنت صلب- فولاذ- لابنت لحم ودم وعواطف وميول.
سمراء تحسب صوتها
الهدار قاصفة ورعدا
آن الآوان، فز مجري
للثأر يا سمراء حقدا
فرشت لأجلك العينين دربا
وذبت على آتون البعد حبا
فمري عبر إحساسي شعاعاً
وطوفي بالخيال رؤى وقربا
فمن هي هذه التي يفرش الشاعر عينيه درباً لخطواتها ويذوب جوى وحباً لنجواها وتمر في خياله شعاعاً وتطوف في أخيلته رؤى؟..
إنها الأمة العربية
رميت بسهم من أكرمت عهداً
غداة ظننت بالسكون صحبا
وإذا كنا قد استعنا بمقدمة الشاعر الكبير حامد حسن للإضاءة على هذا الديوان المتميز ولانعرف شيئاً بالنسبة لنا عن صاحبه إلا إشارة مرت في مقدمة حامد حسن تشير إلى أنه ضابط في الجيش العربي السوري.
رسالة مقاتل في الجبهة
ربما كان من المناسب الآن أن نقدم من الديوان قصيدة من أروع القصائد التي تصور حالة المقاتل وهو يدافع عن وطنه وشعبه والرسالة كما يقول الشاعر هي بمناسبة عيد ميلاد إلى المقاتل ونحن بدورنا نهديها إلى كل مقاتل عربي سوري لأنها رسالته إلينا جميعاً.
إليك هديتي ( ياروح بابا)
إليك القبلة العبق المذابا
وتحنانا دفيئاً في فؤادي
سني الآمال ينسكب انسكابا
وللأتراب أمنيتي وحبي
تروق حلاوة تزكو شرابا
ومن رمشي شموعك يا حبيبي
لتشعلها (ثمانية) رطابا
رسولي يا بني رفيف قلبي
لعرسك للمنى أضحى منابا
وأن يسألك ياتمام عني
رفيق قال: كيف أبوك غابا
فلا تحزن لبعدي يا صغيري
وخل البسمة النشوى جوابا
وقل للصحب كرمانا لعيني
وزهو عيونكم ركب الغيابا
يمجد والدي الأعياد تزهو
بموطننا ونملؤها دعابا
يقدس فرحة الأطفال تندى
حنايا الظامئين بها رغابا
يبارك ضحكة الأزهار عرسا
نماء كلما لذت وطابا
يموت أبي ويحيا كل يوم
لنمرح في الغد الزاهي شبابا
لأجل مذاقنا يغدو رحيقا
تجرع وارتضى اللذات صابا
أرى الباغين (ياتمام) جنوا
وهاموا في مرابعنا اغتصابا
أراهم ذبحوا الأزهار عمداً
وداسوا الورد واحتقروا الملابا
نواح الزيزفون يفت قلب
ويدمي مقلتي الحرى لهابا
ويوقد خاطري الزيتون حقدا
كما اشتعلت براعمه عذابا
إلام البغي يغشانا ظلاما
ويسحقنا على الدنيا اغترابا
إلام الوعد تحبسه الرزايا
إلام البرق ينتظر السحابا
صحا التاريخ (ياتمام) فينا
وأدرك ذاته عمقا صوابا
يجلجل عبر دنيانا نسورا
يدمدم في الحمى أسداً غضابا
وجاء أبوك يقتحم المنايا
لينفتح الخلود لك احتسابا
براعدة يرود النجم دارا
وقاصفة يدق المجد بابا
يروم الحق بأساً واقتداراً
ويبغي العدل في الجلى غلابا
إذا ما الجرح -ياولدي- تلظى
بساحات الوغى عجباً عجابا
أحال الذل والآلام كبرا
وفجر كل غائمة شهابا
فلا ترضى لعزتكم بديلاً
وإلا الوحدة الكبرى ثوابا
والشاعر في مجموعته هذه يدلل على تجربة شعرية ناضجة تناولت جميع فنون وألوان الشعر وقد آثرنا أن نقف عند اللون الوطني وكانت قصيدته السابقة انموذجاً متميزاً فله التحية حياً أوميتاً.
Yemenbbass@qmail.com