إذ لا سهولة في الدخول إلى حقول ألغام عالم الأدب.. ومع هذا.. (أليس الشاعر مزاجياً بوسعه أن يرفّه عنا, في مرحلة فاصلة بين صنيعين مهمين) وكأن جان كوكتو يورد هنا صفة (المزاجية) في تعامل الشاعر مع محيطه الخارجي, وصفةً تمكنه من التعايش مع عالم التورط ذاك, عالم اشتهى توريط نفسه به وعن كامل وعي وإرادة.
إذاً هي صفة المزاجية الملازمة لكل مبدع عموماً وللشاعر خصوصاً (الذي يحق له أن يغير رأيه ويتقلّب في موقفه, دون حساب لأحد) على رأي ممدوح عدوان.. أليس هذا مفهوماً..
لماذا يتجاهل جوزيف عيساوي هذا الأمر في برنامجه (قريب جداً) وبمشاركة أهم ضيوفه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي, في الحلقة التي عُرضت مؤخراً بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيل الشاعر الكبير نزار قباني, وبحضور كل من الدكتورة زهيدة جبور, الدكتور خريستو نجم الدارسين لشعره, مع مداخلات (الحجازي-الناقد السعودي عبد الله الغذامي- الشاعر والصحفي حسين ابن حمزة)
نقطتان بارزتان أثيرتا في النقاش حركتا بدورهما تساؤلات هامة.. وليست أهمية تلك النقطتين نابعة من صوابيتهما. بل تتأتى من منطلق عدم القراءة الصحيحة والدقيقة والموضوعية لشعر نزار.
الأولى.. هي مايأخذه الشاعر عبد المعطي حجازي على شعر نزار أولاً في أنه نظر إلى الناس أكثر مما نظر للقصيدة.. أعطى جماهريته أكثر مما أعطى شعره..
بمعنى أنه لم ينطلق من موقف محدد بمقدار ما انطلق واعتمد على موقف الجمهور.. والتهمة هنا هي الاستجابة للعواطف الشعبية الساذجة -برأي حجازي-فقصيدته ليست موقفاً فكرياً, بل هي وليدة اللحظة... هي عنده إحساس.. ونتساءل.. هل يُفترض أن يتجرّد الشعر من كل إحساس.. وأن تنبض كل كلمة يقولها الشاعر موقفاً فكرياً حتى يبرهن لنا على جودة شعره.. ثم ماهذه التهمة الصارخة التي تنظر إلى شعر نزار من زاوية ضيقة الأفق.. تبقى عند مستوى السطح, لاتكلف نفسها عناء الغوص في العمق..
أما المأخذ الآخر الذي يأتي به عبد المعطي حجازي على شعر نزار.. هو كيف له أن ينتقد نظام عبد الناصر في قصيدة (هوامش على دفتر النكسة) بعد عام 1967م.. ومن ثم يرثيه في موته واصفاً إياه بآخر الأنبياء..
هي ازدواجية وقد تصل لحدود الشيزوفرينيا, يجدها الحجازي عند نزار, وأحياناً عند غيره.
وسواء أكان المقصود هو نزاراً أم شاعراً آخر.. اللافت في هذه النقطة تحديداً هو عدم فهمها الدقيق, والخلط مابين موقف مطلق إنسان, بغض النظر عن كونه شاعراً أم لا, من أي حدث عام, وإدانته لهذا الحدث, إدانته لفعل أو تصرف ينجم عن شخص ما, بعيداً عن الخوض في موضوع مشاعره تجاه ذاك الشخص.. يحبه.. يكرهه.. ينتقده.. يمتدحه..
وهل تعني إشارتنا لمواطن الخلل ولأخطاء البعض, كرهاً لهم..
ألا يجد الحجازي أنه يخلط هنا مابين موقف اتخذه (نزار) من حدثٍ قلب كيان الأمة العربية (النكسة) وما بين مشاعره تجاه شخص عبدالناصر.
وبفرض أن نزاراً كان قد غيّر رأيه (مشاعره) تجاه الشخص المقصود.. أليس هذا جائزاً.. ألايعتبر شيئاً طبيعياً تغيير الإنسان لبعض من آرائه ومواقفه, مع مرور الزمن واتساع التجارب والخبرات الحياتية والمعرفة المعاشة والمكتسبة..
فكيف هو الحال مع مبدع.. مع مطلق شاعر.. اتفقنا منذ البداية على أن المزاجية هي إحدى مكونات الحالة الإبداعية لديه..
ثم إن الأمر يكاد يصيبنا بالحيرة من موقف الحجازي, الذي يبدو أنه لايرسو على بر.
حيث له من المواقف ماله ضد شاعر من وزن أدونيس, أحد أهم رواد الحداثة العربية, ومن أكبر ممثلي تيارات التجديد في الشعر العربي.
وهاهو الآن يعلن موقفه من شعر نزار الذي لايستهويه أن يكون أكثر قرباً من الناس.. ولايعجبه أن يتم تحويله إلى خبز يومي..
على كلٍّ .. النقد يبقى تابعاً دائماً للإبداع إن لم يكن بموازاة جماليات ذاك الإبداع.. ولزاماً على من ينقد أياً كان, أن يفوقه علماً ومعرفة, أن يتجاوزه ثقافة واطلاعاً.. ليكون قادراً على إعطاء حكم نقدي حقيقي في نتاجه.. إذاً هو عمل الناقد وحده أن يطلق أحكاماً في نتاجات الآخرين.. وبديهياً ألا ينقد (ينتقد) أحد المبدعين زميلاً له.
كأن (نزار قباني) كان ذا رؤية صائبة تستشف قادم الأيام حين قال.. (يبدو أن هناك مخططاً لقتل الخيول الجميلة في الوطن العربي.. والخيول التي أقصدها هي خيول الشعر.... وأنا لا أكتب هنا, دفاعاً عن الخيول والأشجار.. لأن الأشياء المرتفعة لا تتأثر أصلاً بإطلاق الرصاص عليها.. فلها من المناعة التاريخية والزمنية.. مايجعل إسقاطها نوعاً من الجريمة المستحيلة)