مَن واكبَ منا مسيرة الحزب منذ البدايات يدركُ تماماً طبيعة الظروف والتحدّيات التي مرّ بها , ويعرف - وهذا هو الأهم - أن التحديات الراهنة هي الأقوى والأشدّ عنفاً وضراوة وخطورة . فالهجمة الشرسة التي نواجهها الآن هي في الواقع حرب كونيّة ثلاثية الأبعاد قد لا ينتبه الكثيرون إلى مضامينها الفعلية التي يمكن تلخيصها كما يلي :
- إنها أولاً هجمة على إرادة الصمود والمقاومة في المنطقة ككل . وباستهدافها لسورية بشكل خاص في البداية , إنما تستهدف محاصرة وضرب المقاومتين الفلسطينية واللبنانية , مثلما تستهدف عزل إيران تمهيداً للاعتداء عليها . وهذا يعني أننا نواجه حرباً على قوى الحرية والتحرير في المنطقة .
- إنها ثانياً هجمة تستهدف الطموح القومي العربي في الوحدة , مثلما تستهدف تضامن العرب والمسلمين في معركة التحرير . كما أن الكل بات يعرف بأن هذه الحرب تستهدف تقسيم المقسّم وتجزئة المجزأ , وذلك في إطار خدمة سياسة التفتيت الاستراتيجي الصهيونية .
- وهي ثالثاً هجمةٌ تستهدف فرض أساليب العولمة الامبريالية الرأسمالية على المنطقة , وجعلها تدور في فلك الاقتصاد الامبريالي - الصهيوني ورأسماليته المتوحشة .
- وهي رابعاً مقدّمة لتنفيذ المخطط العدواني التوسعي الصهيوني في الوطن العربي , والهادف كما هو معروف الى احتلال الأرض العربية بين النيل والفرات . والصهاينة اليوم يشعرون أنهم يقفون أمام أحد خيارين: إما انهيار المشروع الصهيوني كلياً أمام تطور قدرات محور المقاومة أو تحقيق القفزة العدوانية التوسعية الكاملة إذا ما تمكنوا من ضرب العقبة السورية .
حين ننظر إلى أهداف الهجمة على هذا النحو , فإنه يمكننا أن نستخلص بشكل فوري أنها تستهدف الأهداف القومية كما عبّر عنها حزب البعث العربي الاشتراكي منذ تأسيسه , وكما تبنّتها كل الأحزاب القومية في الوطن العربي , وهي أهداف الوحدة والحرية والاشتراكية .
من الطبيعي أمام مثل هذه الهجمة الشرسة أن نتمسك بأهدافنا القومية, وأن تتحد كل القوى القومية والتحررية في بلادنا لمواجهة الهجوم. ومن الطبيعي أيضاً أن نعيد النظر في أساليب مواجهتنا للتحدّي , بما ينسجم مع حجم الهجمة وشموليتها . وبالتالي , فإننا بحاجة إلى استنهاض وتحريك وابتكار كل ميكانزمات الدفاع التي تفرضها طبيعة الصراع , وأن نجعل من تجديد شباب الحركة القومية العربية , بما في ذلك تجديد شباب البعث العربي الاشتراكي , على المستوى العربي كله , منطلقاً لنا ليس فقط لصدّ الهجمة الامبريالية - الصهيونية - الرجعية العميلة ودحرها , ولكن أيضاً لتحقيق التجدّد الثوري في بنية حركتنا النضالية وفي أدائها .
إن المعركة على هذا النحو هي فرصة للتخلص من سلبيات وأدران أدائنا وترهله في المراحل السابقة , باتجاه مرحلة ثورية تكون فيها الثورة على النفس هي نقطة البداية باتجاه جعل المفاهيم الثورية تنتشر وتعمُّ في مواجهة القوى التي جرّبت حظها في اغتيال طموحات جماهيرنا وتطلعاتها , فكان علينا أن نواجهها بما يعبّر عن هذه الطموحات والتطلعات من جهة , وبما يحقق تطوراً نوعياً في أدائنا النضالي العملي من جهة ثانية .
إن فهم المسألة على هذا النحو , يعني أن على البعث أن يجدّد شبابه من خلال الصراع , وهو تجديد للبنية وللأساليب النضالية , أما الأهداف القومية في الوحدة والحرية والاشتراكية فهي ثابتة . وهذه الأهداف لا تمثل البعث فقط , بل هي أهداف تجمع عليها كل فصائل الحركة القومية في الوطن العربي . وإن قيام جبهة واسعة عريضة تضم كل هذه الفصائل إلى جانب فصائل المقاومة , باتت الآن ضرورة من ضرورات الصراع في مواجهة الهجمات التي تستهدف مجموع الأمة . وكما أن مؤسّسي الحزب حدّدوا أهداف النضال القومي بالوحدة والحرية والاشتراكية , فإن القراءة الموضوعية لواقع الصراع تؤكد أن هذه الأهداف ما زالت هي أهداف النضال القومي , وأن الحرب التي تشنُّ علينا إنما تستهدف الحيلولة بيننا وبين تحقيق هذه الأهداف على أيّ مستوى من المستويات , بل إنها تريد أن تفرض علينا واقعاً أكثر سوءاً من الواقع الذي نناضل ضدّه , وأن تجعلنا نرجع القهقرى إلى الوراء بدلاً من التقدم نحو الأمام . بل إن ما هو مرصودٌ لنا من مصائر قد يكون أسوأ من كل تصوّر طالما أن ما يجري يتم لمصلحة العدو الصهيوني واستعماره الاستيطاني التوسعي وأحلامه في السيطرة على الأرض العربية الواقعة بين النيل والفرات بعد إخلاء هذه الأرض من كل أو من معظم أصحابها العرب . وحين يقول كيسنجر بوقاحته العنصرية بأن ما هو مخطط له يقضي بأن تستخدم إسرائيل كل ما لديها من قوة ومن أسلحة لقتل أكبر عدد ممكن من العرب وجعل نصف منطقة الشرق الأوسط جزءاً من إسرائيل , فإن هذا يعني أن ما يخطط له أعداؤنا ليس فقط منعنا من تحقيق أهدافنا وطموحاتنا القومية المشروعة , ولكن أيضاً إعمال أسلحة القتل والتشريد وتحويل العرب بالجملة إلى ضحايا من أجل أن يحقق الصهاينة الأهداف التي خططوا للوصول إليها .
إن المراجعة النقدية بالنسبة لحزب البعث العربي الاشتراكي باتت الآن ضرورة حتمية , لا يفرضها فقط حجم التحدّي الذي يواجهه القطر العربي السوري , وإنما أيضاً المخاطر الهائلة التي يتعرض لها الوطن العربي الكبير . وهذا التحدّي ليس ابن السنوات القليلة الماضية كما قد يتصور البعض , بل هو برز في كل مراحل النضال و وخاصة منذ إنجاز هدف الوحدة الأولى بين مصر وسوريا عام 1958 . هذا الإنجاز الذي أشعر الرجعية العربية مثلما أشعر العدو الصهيوني بالخطر . وإذا نحن أردنا أن نقرأ الأمور قراءةَ واعية , فلا بدّ لنا من ملاحظة أن الحرب على أهداف الحزب والحركة القومية العربية بكل فصائلها , بدأت أولاً منذ أواخر الخمسينيات سواء بالتآمر المباشر على تجربة الوحدة أو بمحاولة عرقلة النضال القومي من خلال تبني شعار « التحرير طريق الوحدة « بدلاً من شعار « الوحدة طريق التحرير» . ولسنا الآن بصدد المحاكمة الفعلية لهذا الشعار , وكيف جرى التعامل معه في مجال التطبيق , وكيف أن الموقف من موضوعة الصراع العربي - الصهيوني تحوّل في نهاية المطاف الى عائق للوحدة العربية بدلاً من أن يكون دافعاً ملحاً للسعي وراء إنجازها .
ولأن موضوع الوحدة , بات في نظر القوى المعادية وراء الظهور , حيث أن الهدف الراهن بات متمثلاً في تمزيق الأقطار القائمة الى كيانات صغيرة هزيلة متصارعة , حتى أن الحكم الذاتي الفلسطيني المحدود في الضفة الغربية وقطاع غزة لم يسلم من التمزيق , فقد دخلوا على الشارع العربي اليوم بمنطق يريد أن ينسينا كلياً هدف التحرير ليصير همّنا كله مركزاً على ما يقولون إنه هدف الحرية أو بالأحرى الديموقراطية بعد تجريد هدف الحرية من بعده التحرري , وهو الأخطر والأهم في ظروف الأمة العربية , وهدف الديموقراطية من بعده الشعبي والاشتراكي , وهو الأهم بالنسبة للإنسان العربي .
والواقع أن من ينظر الى الأمور نظرة إجمالية وتفصيلية متعمقة , لا بدّ وأن يضع في اعتباره الحقيقة القائلة بأن صمود عدد محدود من الأنظمة السياسية الاشتراكية أو الديمقراطية الشعبية في عالمنا بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي عام 1992 , وحل منظومة حلف وارسو , ومن بين هذه الأنظمة سورية , كان حدثاً مثيراً للانتباه في حدّ ذاته , خاصة وأن الأطماع الامبريالية الأمريكية في منطقتنا تترافق مع مصالح الكيان الصهيوني ومخططاته في هذه المنطقة , وأن الأمم المتحدة ظلت , وعلى مدى عقدين من الزمن تقريباً , تحت هيمنة أحادية القطبية الأمريكية . وإذا أضفنا إلى ذلك منطق العولمة المتوحشة الذي اعتمدته واشنطن , وما ترتب عليه من حروب , ومنها حرب احتلال العراق عام 2003 , والحرب على لبنان عام 2006 , ومن ثم أشكال العدوان والتآمر اللاحقة التي لم تتوقف حتى الآن , والتي دخلت مرحلة جديدة بالغة الخطورة مع أحداث ما أسمي زوراً بالربيع العربي اعتباراً من مطلع العام 2011 , كل ذلك وضع النهج القومي العربي في كل أقطار الوطن العربي أمام تحديات كبيرة . وهو يفرض على حزب البعث العربي الاشتراكي وعلى باقي الأحزاب القومية والاشتراكية في الوطن العربي أن تعمل على توحيد صفوفها , وتجميع طاقاتها , ووضع برامج نضالية تتناسب مع الظروف المستجدة والتحديات الطارئة .