وفقدانه هويته المتميزة لأن اللغة جنسية من لا جنسية له، إنها وطن ومن فقد لغته فقد وطنه.
هكذا يبدأ الأستاذ الدكتور محمود السيد كتابه الهام والجديد الذي صدر حديثاً ضمن مطبوعات مجمع اللغة العربية وحمل عنوان: النهوض باللغة العربية والتمكين لها.
ويرى د. السيد أن مفهوم الهوية وثيق الصلة دائماً بأصل الشخص وجذوره وبالوشائج التي تربطه بالآخرين، وتتكون هويته الشخصية والاجتماعية والثقافية من خلال الانتماء والارتباط بالآخرين عبر سيرورة دينامية مستمرة أداتها في مختلف العناصر الثقافية والحضارية، «معارف ومعتقدات وأخلاق وأعراف وعادات» التي يكتبها الطفل من خلال التنشئة الاجتماعية التي تؤدي فيها اللغة الأم دور الناقل والحامل في الوقت نفسه، فهي معين ثقافته وأداة تفكيره.
جامعة شمل..
ويرى السيد أن لغتنا العربية الفصيحة ليست مقتصرة على أنها أداة تفكير وتأمل، ووسيلتنا للتعبير عن مشاعرنا وعواطفنا وأفكارنا، وسبيلنا للتفاهم والتواصل مع أبناء مجتمعنا، وإنما هي إضافة إلى ذلك جامعة شملنا، وحدت بين العربي في مواضي الحقب بطريق القرآن الكريم، وما تزال هي أساس قوميتنا والرابطة التي تجمع بين أبناء أمتنا، توحد بينهم فكراً ونزوعاً وأداءً ورؤى ومشاعر وآلاماً وآمالاً وتاريخاً وحاضراً ومستقبلاً.
اللغة في الإعلام...
نتوقف عند هذا العنوان المهم في الدراسة حيث رأى د. السيد أن وسائل الإعلام هي أدوات محايدة قد تستعمل لبناء العقل والذوق وقد تستخدم بصورة سلبية لتشويه العقل والذوق وأن الدور الذي تقوم به في الحالتين يرتبط بطبيعة الظروف والسياقات السياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية التي تعمل فيها.
ولقد كان للصحافة العربية في القرن الماضي أثر بارز في تطوير اللغة العربية على رعيل من الصحفيين كانوا أدباء في الوقت نفسه إلا أن الأمر اختلف مع ظهور التلفزة على الخريطة العربية في خمسينيات القرن الماضي، ومن ثم كان الانفجار الذي وقع في دنيا الفضاء العربي مع مطلع عام 1990م، ومنذ ذلك التاريخ حتى الآن تضاعف عدد القنوات الفضائية ليزيد على 600 قناة تنتشر على أقمار اصطناعية مختلفة.
ومن الملاحظ أنه كان للفضائيات التلفزية العربية دور شديد السلبية في الإضرار باللغة العربية وتجلى ذلك في اختيار أسماء بعضها، ففي عام 1991 ظهرت قناة (MBC) وفي عام 1994م ظهرت باقة قنوات (ART) ومجموعة قنوات (أوربيت) وكان اختيار الأسماء هنا دالاً على مواقف من اللغة العربية سيطر على عقول المسؤولين عنها ووجداناتهم تماشياً مع الحداثة أو ما بعد الحداثة، ومع متطلبات العولمة وإفرازاتها وهيمنة اللغة الانكليزية.
وتجلى الإضرار بالعربية في اعتماد اللهجات المحلية المفرقة في عاميتها. ومن المعروف أن العاميات أداة تفكيك لنسيج الأمة الثقافي في حين أن الفصيحة عامل توحيد، كما سبقت الإشارة إلى ذلك من قبل، وها هي أغلب البرامج والمسلسلات المؤلفة والمدبلجة والمنوعات تبث بالعامية وكأنها تثبت للمواطن العربي عقم فكرة أن العرب يتحدثون بلغة واحدة على حد تعبير الاعلامي د. محمود خليل وهذه البرامج تنخر في الجسد العربي وتفصل بين أعضائه بتعزيزها اللهجات المحلية واعتمادها.
ويضيف د. السيد أن الخطاب الديني على القنوات الفضائية كما تشير الإحصاءات يبث من ستين قناة تلفزية دينية تسبح في الفضاء العربي وتقدم في أحيان كثيرة خطاباً دينياً وعظياً يعتمد العامية بحجة التبسيط والوصول إلى مختلف المستويات كما يزعم أصحابه وكان متوقعاً أن يكون الخطاب الديني بالفصيحة والقرآن الكريم وذروتها وحارسها.
وثمة ظاهرة انتشرت بين الشباب العربي وهي استخدام الحروف اللاتينية على أنها بديل للحروف العربية في كتابة رسائل الهاتف المحمول وتسهم القنوات الفضائية العربية أيضاً ولاسيما الغنائية في نشر هذه الظاهرة فهي تعمل على إحلال الحرف اللاتيني محل الحرف العربي في الكتابة العربية.
وفي ظل هذه الأجواء يمكننا أن نتصور بعد مدة وليست ببعيدة وجود جيل لا يجيد القراءة والكتابة بالعربية إلا من خلال الحروف اللاتينية ليحقق بذلك ما حاول الاستعمار أن يقوم به على مدار سنوات احتلاله لأرجاء الوطن العربي وأخفق وكأن القنوات الغنائية العربية وعددها يزيد على الستين أصبحت أكثر قدرة على محاربة الفصيحة من الاستعمار.
ويضيف د. السيد أنه لابد من الإشارة إلى الجهود الطيبة التي أنجزت في مجال العناية باللغة العربية الفصيحة إن في الندوات الثقافية في الإذاعة والتلفزة التي تستخدم العربية في حواراتها ومناقشاتها وإن في مجال ترجمة بعض المسلسلات والأفلام إلى العربية.
من سبل النهوض..
يرى د. السيد أنه إذا كانت الدول العربية جادة في النهوض بلغتها والارتقاء بها والمحافظة على حدودها فما عليها إلا أن تكون حريصة على تنفيذ مشروع النهوض باللغة العربية لتوجه نحو مجتمع المعرفة الذي تقدمت به الجمهورية العربية السورية إلى مؤتمر القمة العربي الذي عقد بدمشق عام 2008م ووافق عليه وقدم الشكر لسورية على مبادرتها لإطلاق هذا المشروع وكلف المنظمة العربية للتربية والثقافة تنفيذه بالتنسيق مع اللجان المشكلة لهذه الغاية في الدول العربية وهو مشروع شامل لجميع مكونات النهوض باللغة ويقدم د. السيد مجموعة التوصيات نقتطف منها:
- إصدار القرار السياسي اللازم للتعريب أسوة بالأمم الحية التي تعنى بلغاتها القومية.
- وضع سياسة لغوية على الصعيد القومي وتخطيط لغوي في ضوئها.
- التنسيق بين جميع الجهات المعنية بوضع المصطلحات والالتزام باستعمال المصطلحات الموحدة.
- تفعيل الترجمة إلى العربية ومنها إلى اللغات الأجنبية في ضوء خطة عامة للترجمة.
- تفعيل المكتبات المدرسية ومدها بالكتب الملائمة والمتنوعة في مختلف المعرفة تلبية للرغبات.
- تعزيز الانتماء والتوعية اللغوية.
- دعم عمل جمعيات حماية اللغة العربية في الوطن العربي.