ولكنني اخترت أن أقدمه علماً من أعلام التنوير وفاء لروحه التي بذلها من أجل كلمة الحق ولدوره الظاهر حياً وميتاً في تمكين المرأة وتكامل العمل المؤسساتي ونشر المحبة بين أبناء السماء، وايضاً لأنه ابن دمشق ومجدها وتاريخها.
نبي الله يحيى بن زكريا، الحصور والطهور، والداعية الناصح، وصاحب كلمة الحق التي دفع حياته ثمناً لأجلها، نال شرف الحكمة بقوله تعالى: ( وأتيناه الحكم صبياً ).
ونال شرف السيادة والطهارة والصلاح بقوله تعالى وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين، ونال شرف السلام بقوله تعالى وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً.
إنه نبي الله يحيى بن زكريا، وأمه أليصابات، وهي أخت حنة امرأة عمران أم السيدة الطاهرة مريم، كانت ولادته معجزة إلهية أكرم الله بها أباه زكريا، حيث قام زكريا وهو زوج خالة السيدة مريم، بكفالة مريم عليها السلام حين نذرتها أمها لخدمة المعبد، وكان يرى نباهتها ونبوغها وتوفيق الله لها ، الأمر الذي جعله يحن أن تكون له ذرية، تقوم بما قامت به مريم من إصلاح كبير داخل المؤسسة الدينية
كانت رسالة مريم في تمكين المرأة المؤمنة ومنحها موقعاً مناسباً في خدمة الأمة، فقد كان سلك اللاهوت ممنوعاً على النساء وكان شرط الذكورة لا بد منه لأي مشاركة في الشأن العام، وكانت رسالة مريم تتلخص في تمكين المرأة من دخول المعبد والخدمة فيه بعد أن كانت تمنع من دخول المساجد وتنبذ عن المجتمع وخاصة في فترة العذر حيث كانوا لا يأكلون معها ولا يشربون من إنائها ولا يبيتون معها في فراش.
وكذلك فإن مساهمة السيدة الطاهرة مريم في العمل الديني تشكل جانباً من المساهمة في العمل التشريعي والتربوي والروحاني.
وهكذا فقد اشتدت رغبة زكريا أن يكون له ولد يحمل رسالة من بعده ويسهم بما تسهم به مريم من إصلاح وإرشاد وبناء.
هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء، فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين.
لم يستوعب زكريا الأمر فقد كان شيخاً كبيراً وكانت امرأته عاقراً ولكن الله بشره بأن امرأته ستحمل غلاماً سعيداً اسمه يحيى وصفه القرآن بقوله: ( وآتيناه الحكم صبياً وحناناً من لدنا وزكاة وكان تقياً وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً).
كما ذكر القرآن الكريم من أخبار نبي الله يحيى أن الله أصلح له زوجه، وجعلها من النساء الصالحات ورزقه منها الولد بعد أن كانت عاقراً
أخرج ابن خزيمة أن النبي قال: (أما إنه لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا)، أما سمعتم الله تعالى حيث وصفه في القرآن: (وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين)، لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها.
ولد يحيى بن زكريا في بلدة بيت كارم بفلسطين قبل السيد المسيح بستة أشهر، وراح يبشر بالنبي الموعود الفارقليط، ويعبر عنه في الإسلام بالنبي يحيى بن زكريا، فيما يعبر عنه المسيحيون بالقديس يوحنا المعمدان، وكان قد اشتهر بالتعميد لمواليد بني إسرائيل.
وتروي الأناجيل كثيراً من أخباره باسم القديس يوحنا ابن خالة السيد المسيح وأنه قام بنفسه بتعميد السيد المسيح وهو ابن ثلاثين عاماً، وحين سأله الناس عن نفسه من يكون؟ قال لهم: أنا صوت صارخ في البرية، قوِّموا طريق الرب، أنا أعمد بماء، ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه، هو الذي يأتي بعدي إنني لست أهلاً أن أحل سيور حذائه.
يعتبر يحيى عليه السلام أحد أبرز الأنبياء في الإسلام والمسيحية، ولكنه يعتبر بشكل خاص النبي الخاتم عند الصابئة المندائية والبهائية، وينظر إليه على أنه آخر من حمل الشريعة من السماء إلى الأرض، ولدى الصابئة كتاب يتبعونه باسم دراشة أد يهيا ينسبونه للنبي الكريم يحيى عليه السلام.
يذكره القرآن رمزاً للقيم والفضائل والنوايا الطيبة، عن ابن عباس عن النبي قال : (ما من أحد إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا)، وقال سيد التابعين سعيد بن المسيب: ليس أحد إلا يلقى الله يوم القيامة ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا كان حصورا وسيداً.
وتحمل الأخبار لنا مواقفه الجريئة في الحق، حين كان يواجه مظالم الرومان في بيت المقدس، فقد كان يحيى عليه السلام أحد أشهر المعلمين في فلسطين، وكان يقدم عظاته للناس، وكان بالغ التأثير فيهم.
يروى أن والي القدس هيرودس الروماني تعلق بابنة أخيه هيروديا، وكانت هيروديا فائقة الجمال، ولم يبال الوالي الروماني أن يوقعها في الحرام وأن يصارح الناس أيضاً بأنه ينوي الزواج منها!! كان زواج هيرودس من هيروديا حدثاً خطيراً في القدس وهو بمثابة تشريع نكاح المحارم وتدمير الأسرة الأمر الذي جعل يحيى عليه السلام يندفع بقوة لإعلان تحريم ما أقدم عليه هيرودس، ونادى في المجمع إن هذا اللون من العلاقة إنما هو فاحشة تامة لا يجوز السكوت عليها، وانتشر الخبر في الناس، وغضب هيرودس وأمر بسجن يحيى عليه السلام، ولكن يحيى ظل ينكر ذلك وهو في السجن ورفض أن يتراجع عن فتواه، وحين خلا هيرودس بهيروديا امتنعت منه وقالت لا أمكنك مني حتى تحمل إلي رأس يحيى بن زكريا الذي شهر بي وبك، وجعلنا سية على ألسنة الناس، ولم يتردد هيرودس في فورة شبقه من الأمر بقتل يحيى بن زكريا وخلال ساعة كان رأس يحيى عليه السلام على طبق يهدى لهيروديا من أجل أن تتم الفاحشة!!
وفي هذا المعنى يقول الرسول الكريم محمد : (إن من هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا حمل إلى امرأة بغي من أجل فاحشة).
تواترت الأخبار بأن رأس يحيى عليه السلام بعد أن قطعه هيرودس حمل إلى دمشق ونظر إليه الناس كقديس ثائر دفع حياته من أجل كلمة الحق وتم تكريمه بأعظم التكريم ودفن في قلب المعبد الروماني الذي كان قائماً في دمشق والذي أصبح فيما بعد المسجد الأموي.
أما المصادر المسيحية فقد ذكرت أن يحيى عليه السلام قد قتل في السامرة ودفن هناك، وهناك كنيسة في السامرة باسم كنيسة يحيى (يوحنا المعمدان) ولكن مصادر أخرى تشير إلى أن رفات يحيى عليه السلام حمل إلى كنيسة سلفستر في روما، كما إن جانباً من رفاته أيضاً نقل إلى فرنسا، ولكن ظل الاتفاق بين المصادر أن رأس يحيى عليه السلام دفن في دمشق.
على خلاف الأعراف الإسلامية التي لا تأذن بوجود القبور في المساجد فإن قبر يحيى عليه السلام حظي باحترام فريد وتم الاتفاق على تجاوز ذلك، وأعلن الوليد بن عبد الملك حين بنائه للمسجد الأموي أن قبر يحيى عليه السلام سيبقى رمزاً للطهر والاستقامة وسيبقى حيث دفن في قلب الجامع الأموي الكبير.
وخلال ثلاثة عشر قرناً ظل المسلمون والمسيحيون يزورون ضريح يحيى عليه السلام رمزاً للطهارة والاستقامة ورمزاً للإخاء بين أبناء الأنبياء.
وينظر إلى ضريح السيد المسيح في مسجد بني أمية على أنه أحد أهم معالم الإخاء الإنساني حيث لا يوجد في الأرض قديس مدفون في معبد أمة وهو ينتمي إلى دين أمة أخرى، ولا يوجد في الكنائس قديسون بوذيون ولا في معابد الهندوس قديسون يهود، ولا في الكنس قبور علماء مسلمين، ولكن المسجد الأموي انفرد بهذا الموقف العجيب نبي يتبعه النصارى والصابئة وهو في قلب المسجد على خلاف ما اعتاده الناس.
ويعتبر الحج لزيارة ضريح يحيى عليه السلام أحد التقاليد المشهورة في المسيحية وفي أيارعام 2001 قام البابا يوحنا بولس الثاني بزيارة ضريح يحيى عليه السلام في حفل كبير كان له أبلغ دلالة على تاريخ العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في العالم.