لقد أقاموا ميزان سطوتهم الاستعمارية الإرهابية على قواعد وجود السلاح والانجراف العسكري الأصم وعلى نشر الموت والدمار بتأسيس مباشر من دول عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبتغذية مالية وبشرية وميدانية من أنظمة كنا نعتقد أنها عربية في محاكمتها للوقائع والتحديات وحدث إنجازاً لذلك أن توافقت إرادات المعتدين من الخارج البعيد ومن الإقليم ومن الجوار العربي ومن شرائح مهووسة في الداخل السوري نفسه كان ذلك الهيجان يؤهلهم لاستنتاج أمرين خطيرين، الأول منهما الاعتقاد بأن تدمير الوطن السوري هو مجرد تحصيل حاصل بحكم الافتتان وبمصادر التغذية للإرهاب ووحدة المعتدين في الموقف العام وفي الميدان.
والثاني منهما اعتقاد هذه القوى الظلامية أن المسألة لا تعدو كونها وقتاً سريع الخطا وتنتهي قصة التدمير لسورية، ولكن التاريخ كما هو الواقع الراهن يفرض حضوره ومؤشراته بالدروس والعبر التي استقرت في الذاكرة الحضارية لهذا الوطن السوري وهكذا دخلت خصائص هذا الوطن في المواجهة مباشرة واستيقظت وأيقظت معها قيماً ومواقف هي الآن تعطي للأداء الوطني السوري سماته العليا وعلاماته الفارقة ونختار من هذه الخصائص التي يعرفها عنا التاريخ وتعرفها عنا الأمم الأخرى عدوها قبل صديقها مادتين اثنتين، أما الأولى منهما فهي أن الوطن السوري ذاكرة حية مادتها الشهادة والسلام وتنبعث هذه الذاكرة مشرقة فاعلة في اللحظة النوعية الصعبة كما هو حاصل الآن، فها هو تاريخنا يندفع باتجاه الزمن الراهن ومعه كل مكونات الذاكرة الوطنية عبر الشهادة والشهداء، هناك آباء شهداء وهناك أجداد شهداء والآن هناك أحفاد شهداء وما انقطعت مسيرة العطاء هذه في أي منعطف زمني تاريخي.
وكان فقه الشهادة والشهداء يرتبط بقيمة الوطن بسيادته واستقلاله وكرامته لذا كانت القمة دائماً في اتحاد موكب الشهادة والشهداء مع استقلال الوطن واستمرار وحدته وبقاء دوره موئلاً لكل حق وردعاً لكل عدوان ومثابة لكل أمل مشروع ومصدراً لإشعاع ساطع نظيف ينشر النور والخير في مساحة الدنيا كلها، وقد انبعثت الخاصية الكبرى فيه والتي قدمت على الدوام النموذج الحي والخالد لمسيرة شعب لم ينقطع عنه العدوان ولم ينقطع الشعب ذاته عن خصائصه ومقومات وجوده، وتكبر مساحة المواجهة في هذه اللحظة وتنتشر في ذات السياق مساحة الخصائص الكبرى للوطن السوري والثمن مرتفع بالتأكيد وأرواح الشهداء غالية علينا جميعاً ولكن المشاهد في الميدان والتحولات التي تملأ السمع والبصر في المواجهة هي ثمارٌ طبيعية لمشروعية الموقف السوري ولأهمية الخصائص الوطنية.
ونستدرك خاصية تاريخية وطنية أخرى في وطننا هي التي تتمثل في الوعي على الذات وفي الصبر على كل عوامل التدمير والتجويع والحصار الاقتصادي وتهديم مصادر الإنتاج واستهداف منصات البناء الوطني مثل مصادر الطاقة وخطوط المواصلات والرغيف الكريم الذي يقتسمه شعبنا الآن والمأوى السامي لكل أبناء الوطن من الذين داهمهم الإرهاب فتمردوا عليه ومن غادر منهم وجد الحضن الدافئ والملاذ الآمن في بيئات منتشرة في كل زاوية من الجغرافيا السورية، إن الصورة الراهنة تقدم سمواً في التضامن السوري على قدر ما تقدم نبوغاً إلى حد الإعجاز في الميادين العسكرية، إن خاصية الصبر على المكاره واستيعاب قسوة الموجات الاستعمارية أدت باستمرار كما هو واضح الآن إلى نتائج عضوية في بنية وطننا الاجتماعية والسياسية، لعلنا نختار ومن هذه النتائج الناظمة والحاكمة الآن ثلاثاً كمجرد مؤشرات وأمثلة على انبعاث خصائص هذا الوطن التي لا تنضب ولا تغيب.
أما الأولى فهي تتمثل في المقدرة على استيعاب الصدمة وإعادة بناء طبيعتها وأهدافها الخطرة والشعب السوري هو كالتاريخ السوري كلاهما لا ينفذ ولا يتبدد ولا يتوقف عند محنة أو خطر، ولنتذكر مثالاً تاريخياً هو أن هذا الوطن في عصر الدول المتتابعة أو ما سُمي (عصر الانحطاط) واجه الاجتياح الإرهابي المغولي القادم من الشرق والاجتياح الفرنجي عبر ما سمي (الحروب الصليبية) القادم من الغرب، وانتصر الوطن على أخطر الغزاة وأكثر أشكال العدوان دموية في تلك الفترة، والنتيجة الثانية تتمثل في ترسيخ مصادر الوعي والعقل عبر إعادة صياغة نظام الأولويات في العمل الوطني الراهن وبناء مستويات الاستجابة الكفيلة بالرد على التحديات، ولا ندعي أن الصورة هنا كاملة نظيفة متكاملة فهناك خيانات وهناك ضمائر متحجرة وهناك غرائز مستنفرة وهناك أحقاد وبيع وشراء وصل إلى الداخل السوري نفسه ولكن الوعي ونظام الأولويات بقيا المادة المتفوقة والناظمة بكل مستويات نضالنا ومن ثم تمثلت النتيجة الثالثة في قابلية هذا الوطن التاريخية لاكتساب الخبرة وإجراء التعديلات اللازمة على الموقف بالمعيار المادي والمعنوي وهذا ما أهلنا في هذه السنوات العجاف لكي نستفيد من كل درس ولكي نواجه الغازي المحتل بما يخافه هو وبما نمتلكه من خلاصات ثمينة للغاية هي عدتنا وعتادنا في كل معركة.