كلما جرى الحديث عن العودة إلى طاولة المفاوضات، وتبدأ سلسلة الذرائع المعطلة من الحديث عن الأمن لتنتهي بالحديث عن «وقف ثقافة التحريض»، وما بينهما توضع اللاءات المعروفة.
والمصطلح الآنف الذكر من المصطلحات التي ولدت مع خارطة الطريق، وأخذت معانيها الأكثر وضوحاً في قمة العقبة، ليصبح ملازماً لمصطلحات التسوية، لكن يبقى المعيار بهذا الصدد مبهماً وحمال أوجه، وتحدده من الجانب الإسرائيلي المصالح التوسعية وعدم الاكتراث لكافة قرارات الشرعية الدولية، واعتبار كل دعوة لتنفيذ تلك القرارات نوعاً من «ثقافة التحريض»، وقمة التحريض حسب الرؤية الإسرائيلية هي المطالبة بعودة اللاجئين، أو حتى ذكر مشكلة اللاجئين، لأن في ذلك إشارة صريحة للجريمة الصهيونية التي حدثت عام 1948 ولأن ذلك يذكر العالم بأبشع أشكال العنصرية التي شهدها التاريخ المعاصر وهذا ما لا تريده إسرائيل التي تدعي الديمقراطية الزائفة، فقط يكون الفلسطيني صالحاً للسلام وغير محرض عندما لا يتحدث عن الحقوق الوطنية المشروعة وعندما يستقبل دبابات الاحتلال بالزهور والترحاب؟! وعندما يأتي إلى طاولة المفاوضات مستقيلاً من فلسطينيته من دون أوراق عمل بانتظار الهبات والحسنات الإسرائيلية، وإسرائيل لا تنتظر أن تجاب دعوتها «لوقف التحريض» فهي تتخذ إجراءات عنصرية على الأرض وتفسرها وتبررها في ذات السياق من نمط الإجراءات التي اتخذت قبل أشهر، وفي مقدمتها إلغاء الأسماء العربية للقرى والبلدات الفلسطينية في مناطق 48 واستبدالها بأسماء عبرية وشطب مصطلح النكبة من المناهج التعليمية وهكذا يعتبرون أن بمقدورهم شطب التاريخ والولوج إلى عالم خال من التحريض!
وبذات الوقت الذي تطلب فيه إسرائيل من الفلسطينيين التخلي عن حقوقهم الوطنية المشروعة تحت هذا العنوان تجاهل التحريض والكراهية والعنصرية الإسرائيلية، سواء تلك التي تبثها المؤسسة الدينية والأحزاب المتطرفة أو تلك التي تتجسد على شكل قوانين عنصرية تسنها المؤسسة الرسمية، وفقاً لعلاقة تبادلية بينهما تبدأ تحريضاً لتنتهي قانوناً داخل الكنيست، يتحول إلى برنامج عمل للحكومة ويبدأ ذلك من الرؤية السياسية للأحزاب، فالعديد من الأحزاب الإسرائيلية وفي مقدمتها حزب الليكود ومنذ اللحظات الأولى للاحتلال تستخدم تعبير (الأراضي المتنازع عليها)، بدلاً من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
إن تعبئة الشارع الإسرائيلي بمصطلحات مخالفة للشرعية الدولية هو بحد ذاته ثقافة تحريض، وحتى خطة فك الارتباط التي نفذها شارون أعطت المستوطنين دافعاً قوياً للتمسك بالاستيطان لأنها لم تأت في سياق خطة دولية شاملة لإنهاء الاحتلال واقتلاع الاستيطان لا بل على العكس إن أحد أبرز أهدافها هو إحكام السيطرة على الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الفلسطينية ومحيط القدس، وهي بذلك تعطي الانطباع لدى المستوطنين حول «شرعية الاستيطان» ولا شرعية الإخلاء، وبذلك تكون الحكومات الإسرائيلية، التي تشيع أمام العالم أنها في مأزق يتمثل في تمنع المستوطنين بوجه الإخلاء هي المسؤولة أولاً وأخيراً عن هذا التمنع، وهي التي أشاعت وتشيع أجواء التحريض بين صفوف الصهاينة حول الحق الزائف في فلسطين التاريخية، فمن الأجدر بالذين يطالبون الفلسطينيين بوقف ثقافة التحريض أن يطلبوا ذلك من إسرائيل التي تعيش حالة غير مسبوقة من التطرف والتحريض ليس فقط في المجتمع وإنما أيضاً في الحكومة ففي مواجهة الخطط الداعية إلى إخلاء المستوطنات شنت ومازالت تشن الأوساط المتطرفة حملة تحريض واسعة ضد المقدسات الدينية الفلسطينية في القدس، وبدأت تهدد أن بمقابل الإخلاء سوف يتم هدم الحرم القدسي الشريف حيث تجددت الدعوات العنصرية التي قادها الحاخام يشوعا بن شوشان قبل 25 عاماً.
وفي استطلاع للرأي أجرته مجموعة مارك ملمان الأميركية حول الاستعداد الإسرائيلي للتنازل عن حقوق الإنسان الفلسطيني يشير الاستطلاع إلى أن 58٪ فقط قالوا إنهم يتحفظون على قتل الأطفال الفلسطينيين، بينما 35٪ منهم قبلوا ذلك وهذه نسبة عالية ولم تأت من فراغ بل هي ناجمة عن ثقافة تحريض، ووافق 40٪ ممن شملهم الاستطلاع على سياسة إهانة الفلسطينيين على الحواجز وحتى ولادة النساء على الحواجز بنظرهم لا تشكل إخلالاً بحقوق الإنسان، و 66٪ يعتقدون أن أمن إسرائيل أهم من حقوق الإنسان الفلسطيني، طبعاً كل ما ذكر يأتي في سياق ثقافة تحريض عنصرية مبرمجة بإشراف رجال سياسة ودين وأكاديميين في الكيان الصهيوني، إليكم ما قاله البروفيسور رافي يسرثيلي في شهادته في المحكمة المركزية في حيفا (العقلية العربية تتشكل من إحساس الضحية لا سامية مريضة وميل للعيش في عالم الأوهام، والعرب مهملون للنظافة في مدنهم وقراهم ومعظم القرى العربية أكثر قذارة مادياً) ويصف العنصري يسرثيلي نداءات المؤذنين في المدن المختلفة بأنها (إزعاجات صاخبة) ويقول أيضاً في أحد كتبه: (العرب طابور خامس يمتص رحيق الدولة وهم عبء على الدولة وتنتشر في أوساطهم معدلات جريمة عالية وهي في معظمها (جريمة أيديولوجية).
إن مبعث التطرف والتحريض الذي يعيشه المجتمع الصهيوني هو عدم وضوح السياسة التي انتهجتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تجاه الاستيطان والتسوية والاحتلال، فهي لا تريد الذهاب أبعد من (اتفاقات مرحلية طويلة الأمد) وتؤثر الحديث عنه (دمقرطة المجتمع الفلسطيني) وتصر على (مناطق أمنية وكتل استيطانية) أي استمرار الاحتلال الجزئي أو التام لا فرق فالاحتلال مستمر والتحريض على الاستيطان مستمر واستقدام المهاجرين مستمر والعنصرية مستمرة واحتكار دور الضحية يعفي إسرائيل من مهمة وقف ثقافة التحريض ويجعل ذلك مهمة مقتصرة على الجانب الفلسطيني فإسرائيل ديمقراطية وناسها ناس ليسوا بحاجة إلى تأهيل للسلام والمجتمع المدني وحدهم الفلسطينيون وحوش وبحاجة إلى تأهيل؟!
إن شعار «يهودية الدولة» هو أكثر الشعارات تجسيداً لثقافة التحريض والكراهية وإذا كان هناك دعوة جديدة لوقف ثقافة التحريض، على أبواب دعوة واشنطن إلى العودة لطاولة المفاوضات، لابد من أن يشمل أولاً دعوة إسرائيل إلى التخلي عن هذا الشعار، بوصفه شعاراً عنصرياً ومقدمة لتجاهل الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة.