ومن هذه الحادثة سار بين الناس مثل شعبي يقول: المنحوس إذا صعد إلى ظهر الباص يعضه الكلب!
وقد جرنا الحديث عن مشكلات خالد وبلاويه، ولايزال يجرنا، إلى حكايات وذكريات من ذلك الزمن القديم حيث كان أصحاب المهن يتقاذفونه مثل كرة القدم، وعلى أثر كل فشل كان يعاد إلى والده مثل حذاء أبي القاسم الطنبوري ليحزن قليلاً، ويضربه كثيراً ثم يستأنف بحثه السيزيفي عن عمل يستره ويقيه من شر الفقر والحاجة في المستقبل.
وفي ذات مرة كان أبوه يمعن التفكير في وضعه، فهداه عقله إلى أن أفضل حل أن يشغله آذناً في عيادة الدكتور سالم المعلول.
كانت عيادة الدكتور سالم المعلول في زقاق البورملي فرجة لمن يريد أن يتفرج، فإذا أنت أحببت أن تزورها، بسبب مرض ألمَّ بك، أو لأي سبب آخر، فما عليك إلا أن ترفع كمي بنطلونك قبل أن تصل إلى الحارة بخمسين متراً على الأقل وتمشي متعاطياً على رؤوس قدميك لئلا تغطس في الطين الملوث بما يجري على وجه الأرض من أمواه وسخة.
وبمجرد ما يصبح المرء في داخل العيادة يستقبله عبق دخان التتن العربي المفروم على الموس، ولولا مبدأ أرخميدس الذي ينص على أنه إذا دخلت كتلة بشرية وسط الدخان فإن كمية من الدخان تساوي حجم الكتلة الداخلة تخرج من الباب، لكان الموجودون فيها، وبالأخص الأطفال الصغار، لفظوا أنفاسهم من شدة الضيق.
إن الداخل إلى العيادة يرى مقاعد خشبية طويلة ملقاة على نحو متواز في الصالون الكبير الذي يفترض أنه «غرفة الانتظار» وعلى هذه المقاعد كان يجلس عمال وفلاحون وقرويون وبدو، رجال ونساء وأطفال، وكل اثنين من الرجال ينهمكان في حديث عن الفقر وكثرة العيال ومصاريف المدارس ومؤونة الشتاء والفلاحة والبذار والتعشيب وقصقصة (الباطور) من حول جذوع أشجار الزيتون، والسهر في المضافات والمقالب التي يجريها بعضهم ببعضهم الآخر..
والنساء الصبايا يتحدثن عن إرضاع الأطفال وتنظيف مؤخراتهم وتحفيضهم وإرسال الأولاد الأكبر إلى المدارس وتجهيز الزوادات للآباء الذين يذهبون إلى الفلاحة باكراً ولايعودون منها إلا بعد غياب الشمس، والطبخ والنفخ والغسيل وترقيع الثياب التي يشقشقها الأولاد (السعادين) في أثناء اللعب والركض على غير هدى.
والنساء العجائز يتحدثن بأفواه درداء خالية من الأسنان عن التعب والوهن والأوجاع والبلاوي الزرقاء، ولؤم الكنائن، وكيدهن لهن على الطالعة والنازلة، والمشكلات التي لها أول ومالها آخر بين الجيران، والقادوس الذي ينقطع حبله ويسقط في الجب، والقاشوشة التي تستعار من الجيران لأجل إخراج القادوس.
ولاتعدم، وأنت تستعرض هذا الخليط البشري العجيب المصطف في العيادة رؤية رجل وصلت سيجارته إلى نهايتها، ولم يعثر على منفضة فألقاها على الأرض وشرع يدعس عليها بحذائه وامرأة صبية بكى وليدها فشمرت كنزتها إلى الأعلى وأخرجت الثدي وألقمته للولد، ثم غطت عليه بالإيشارب أو الشاشية التي تلتف على الرأس لئلا يرى بياض ثديها الرجال الأغراب.
ويكاد الغلط المتواتر المتصاعد لهؤلاء القوم يتحول إلى مايشبه أزيز العاملات في خلية النحل، لا يقطعه شيء سوى صوت الدكتور سالم المعلول الذي يتصاعد فجأة من غرفة المعاينة وهو يوبخ مريضاً في أثناء المعاينة بكلمات لم تعرف مهنة الطب مثيلاً لها عبر العصور فيقول مثلاً:
لماذا أنا أقول وأعيد الكلام وأعص على نفسي إذا كنت أتعامل مع ناس لاتفهم ولاتقدر؟ ولاك، يابني آدم، ألم أقل لك عشرين مرة إن أكل الدسم ممنوع؟ يخرب بيتك وكأنك تجاكرني مجاكرة كل يوم تنزل إلى السوق وتشتري رأس (نيفا) مع المقادم، ولايحلو لك أن تأكل غير (الظوظ) المكتظ بالدهن، وفوقها تأتي بالسمن العربي وتقلي به اللية المفرومة، وفي أيام الحمية تصنع لك زوجتك أقراص الكبة المشوية بالشحم وتأكل منها بلا وعي!
ضمن هذه الفوضى العارمة أتى الفتى المنحوس خالد وهج النار لكي يشتغل آذناً في العيادة.
(سأخبركم بما جرى معه في الحلقة القادمة).