الذي كان يتخذ من أفغانستان مقراً نقول «قيل» لأن المسألة كانت طيلة الوقت تلفها الشكوك ومازالت، بل ازدادت هذه الشكوك مع الأيام والسنين التي انقضت فأبعدتها أكثر وأكثر عن «الرواية» الرسمية للبيت الأبيض.
هناك اليوم من يتحدث داخل الولايات المتحدة الاميركية بصوت عال عن الرواية الأخرى، وبين هؤلاء مفكرون وعلماء وسياسيون معروفون جيداً في الولايات المتحدة وخارجها «رواية أخرى» تقوم على مؤامرة خططت لها ونفذتها المخابرات المركزية الاميركية «سي، آي، ايه» ووزارة الدفاع (البنتاغون)، وجهات أخرى مسؤولة، حيث يكفي لإغراق القضية سنوات طويلة قادمة في بحر من الأقوال. في كل الأحوال، وأياً كانت «الرواية» الصحيحة فإن الذي تبين للجميع وبصورة أكيدة هو أن إدارة بوش أرادت من ذلك اليوم أن يكون بداية لوضع كل أطماع النهب التاريخية وأوهام السيطرة الامبراطورية التي جسدتها أفكار «المحافظين الجدد» ومن ورائهم تجار الحروب في المجمع العسكري الصناعي موضع التطبيق تحت عنوان «الحرب على الإرهاب». كانت البداية في أفغانستان وضد حركة «طالبان» وتنظيم «القاعدة» وسرعان ما أعلنت القيادة العسكرية الاميركية تحقيق النصر وانتهاء العمليات العسكرية، ولكن القوات الغازية ظلت في أفغانستان لتقيم دولة حديثة ديمقراطية! بعد ذلك،كانت الغزوة الاميركية ضد العراق، وأيضاً سرعان ما أعلن بوش النصر وانتهاء العمليات العسكرية في العراق. وها هي تنقضي ثماني سنوات على غزو أفغانستان، وستة على غزو العراق، وآخرى الأخبار تقول: نظام الحكم الذي جاءت به الحرب إلى كابول مازال عاجزاً عن حكم البلاد، وبالرغم من الوجود العسكري الاميركي، المدعوم بقوات من حلف الأطلسي، فإن أفغانستان تفتقر إلى أدنى مستويات الأمن والأمان الذي عاشته في ظل حكومة طالبان.
في بعض الولايات الأفغانية، يسيطر أمراء الحرب وميليشياتهم، وفي ولايات أخرى أعادت «طالبان» تنظيم صفوفها بحيث باتت تسيطر على مناطق شاسعة من البلاد. وبالرغم من أن الولايات المتحدة قد كسبت الحرب رسمياً فإن القوات الاميركية وحلف الاطلسي تتعرض لهجمات يومية ولخسائر تتزايد معدلاتها بمرور الوقت لا الجيش الأفغاني قادر على بسط سيطرته على العاصمة الأفغانية، ناهيك عن باقي البلاد، ولا هو قادر على حماية عناصره من هجمات قوات «طالبان» وحلفائها إن الخطر وفقدان الأمن والانقسامات الداخلية في أفغانستان لم تؤد إلى تأجيل طويل المدى لكل المشاريع الاقتصادية الاستراتيجية في المنطقة فحسب (مثل مد أنابيب النفط من وسط آسيا) ولكن أيضاً إلى تبخر الجزء الأكبر من وعود المجتمع الدولي بالمساهمة في تنمية البلاد واعادة بنائها. باختصار تحول المشروع الاميركي في أفغانستان إلى مثال للاستنزاف العبثي الاميركي ولقصور سياسة الهجوم الاستراتيجي عن الوصول إلى أهدافها، بل والقذف بهذه الأهداف إلى المجهول.
أما العراق فكان ساحة التجلي الأهم لاختبار سياسة الهجوم الاستراتيجي الاميركي، وقد اندفعت الإدارة الاميركية نحو العراق، كما لم تندفع تجاه أي هدف آخر من أهدافها وضع الغزو الاميركي للعراق نهاية دموية للنظام الدولي الذي ساهمت أميركا (ودرو ويلسون) في وضع قواعده في أعقاب الحرب العالمية الأولى نظام حق الشعوب في تقرير مصيرها وتأسيس دولتها المستقلة ذات السيادة. وجرت عملية غزو العراق في مواجهة معارضة عالمية واسعة، وبدون اكتراث يذكر بالرأي العام العالمي. وفوق ذلك كله، فإن مسوغات الغزو كانت واهية، حتى من وجهة نظر أصوات نافذة في واشنطن والدول الحليفة لها. وقد بدا بعد سقوط النظام العراقي أن الولايات المتحدة نجحت في اختبار القوة سياسة إطاحة الدول واستبدالها بدول جديدة ترسم ملامحها في واشنطن ستصبح الاطار المرجعي الجديد للعلاقات الدولية.
ولكن العراق فاجأ الإدارة الاميركية كما لم تفاجئها أي من نقاط الاشتباك والتأزم في العالم. لم توقع أي من أطراف النظام العراقي السابق وثيقة استسلام البلاد، حتى بعد اعتقال أكبر رؤوس النظام، وسرعان ما انتقل العراق من حالة الهزيمة إلى حالة المقاومة. فشل الاميركيون في ايجاد شركاء عراقيين يتمتعون بمصداقية كافية لحشد الشعب من ورائهم، وأطلقت الساحة العراقية، خلال أسابيع قليلة من الاحتلال، قوى سياسية وعلمانية ذات نفوذ ومصداقية وبتوجه وطني مناهض للاحتلال. انفجرت في وجه الإدارة سلسلة من القضايا الطائفية والعرقية بالغة التعقيد يصعب الآن تجاوزها ويصعب أكثر حلها في ظل الوجود الاميركي.
وإلى ذلك، فإن شعار الديمقراطية الذي أحاط به الاميركيون غزوهم، أصبح بحد ذاته مصدر خطر على استمرار الوجود الاميركي في العراق. الآن وقد شارف الغزو الاميركي ذكراه السنوية السابعة، ويبدو العراق وكأنه تحول إلى مصيدة سياسية وعسكرية للسياسة الاميركية، لا هي واشنطن على استعداد لدفع ثمن سيطرتهما عليه، ولا هي تقوى على ابتلاع كبريائها والانسحاب منه، لقد قامت الغزوات الاميركية على الأكاذيب، وما بدأ بالأكاذيب ينتهي بالفضائح. غزت القوات الاميركية أفغانستان رداً على «اعتداءات» وأصبح الاميركيون يتشككون في بصدق ادعاءاتها. وغزت العراق باتهامات وقف العالم كله على كذبها وبحجة «نشر الحرية والديمقراطية» فعرف العالم كله حقيقتها مما تسرب من جرائم أبو غريب ومسرحيات المجالس والصحوات ومجازر الأضرحة والمراقد. أعلن بوش «الحرب على الإرهاب» ليشهد كل العالم أن الإرهاب بعد ثماني سنوات أصبح أخطر وأوسع انتشاراً وليصبح العالم أقل أمناً باعتراف كل الجهات والدوائر الخبيرة.
نعم.. ما يبدأ بالأكاذيب ينتهي بالفضائح.