لكن يبدو أن وضعية المبدع في هذا السياق لا تخلو من قلق يعبر عنه العديد من المتابعين والمعنيين. لقد حذر الكثيرون من مأزق الاغتراب عن الواقع الذي تؤدي إليه وسائل الاتصال الحديثة والإنترنت؛ حيث تختصر العلاقة مع العالم إلى مجرد التواصل مع صوره الافتراضية على الشبكة والشاشات. فهل يمكن للأديب اليوم أن يتعامل مع هذا الواقع دون أن تستلبه ثقافة الإعلان وتسويق الذات ودون أن تتحول العوالم الافتراضية إلى ممرات إجبارية ووحيدة له في مغامرة البحث والتجريب؟ وهل يمكن رغم طغيان شبكات التواصل العملاقة أن يحتفظ المبدع بحيز خاص مهما كان ضيقاً؟
شكل مفهوم «الخصوصية الفردية» أحد الضوابط والمعايير الناظمة للعلاقة المعقدة بين الفردي والجمعي. ولأن هذا المفهوم معطى ثقافي وقيمة نسبية غير ثابتة، فقد كان على الدوام واحداً من ملامح الشخصية الثقافية للشعوب والمجتمعات. وربما بسبب ذلك تحول في التداول الثقافي المعاصر إلى أحد مفردات التماس والتناقض في تجارب العولمة الثقافية، حيث حُمِّل -وبشكل لا يخلو من مغالاة في كثير من الأحيان- دلالات سياسية ودينية وأيديولوجية. فأصبح مفهوم «الخصوصية الفردية» مثلاً تجلياً للمفاهيم الأخلاقية والسياسية ولأنماط السلوك بكل ما يحددها في السياسة والمجتمع.
ورغم هذه الطبيعة الملتبسة والغامضة لمفهوم «الخصوصية الفردية»، فإن التداول الثقافي له بدأ يؤسس لسياق واضح، يمكن من خلاله قراءة تحولات ثقافية نوعية وخطيرة. فالخصوصية الفردية في المجتمع المدني الحديث دخلت على المستوى الكوني تجربة وسائل الإعلام والاتصال التفاعلية التي شكلت فضاء مفتوحاً استطاع إلى حد بعيد تحييد آليات الضبط والقمع التي تمارسها المنظومات الأيدولوجية/الأخلاقية والمؤسسات الاجتماعية/السياسية.
دخل الفرد في هذا الفضاء تجربة جديدة تحكمها نزعة محمومة وجارفة نحو الإعلان عن الذات. ليس الإعلان عن الذات فقط، بل إنتاج صور الذات وتسويقها في الفضاء الجمعي العام. وقد أدت هذه النزعة إلى تلاشي الحدود بين الفردي والجمعي، حيث تحول كل شيء من الخصوصيات الفردية مهما كان تافهاً، صغيراً، حميماً، فضائحياً، خطيراً، جميلاً، قبيحاً، مقبولاً أو مرفوضاً إلى مادة متاحة ومعلنة بشكل غير مسبوق من حيث السهولة والانتشار. حدث ذلك في تجلياته الاجتماعية في ظواهر إعلامية مثل ما يعرف بتلفزيون الواقع ثم تطور في تطبيقات التواصل على شبكة الإنترنت، وتحديداً من خلال شبكات التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى إمبراطوريات اقتصادية كبرى يقول عنها البعض إنها سرديات عصرنا التي تحولت إلى بديل للسرديات الكبرى التي أعلن منظرو ما بعد الحداثة موتها!
لم يكن السؤال حول ماهية الإبداع في أي يوم واضحاً، ولم تكن الإجابات بالتالي سوى تعبيرات قلقة عن موضوع قديم جديد تعيد الثقافة إنتاجه في كل مرحلة تاريخية في عملية مستمرة من التنويعات والتحويرات. وفي كل مرحلة لا تعبر التنويعات الراهنة عن معنى مستقر للسؤال بقدر ما تعبر عن ملامح الثقافة التي تنتجه. فإذا تأملنا في السياق الراهن لهذا السؤال الكوني، تماماً على عتبة العقد الثاني من الألفية الثالثة، سنعثر ولو بمشقة يفرضها الضجيج والكثافة المعلوماتية المسيطران على الحياة الثقافية على خصوصية محددة للسؤال ربما لا تضيف شيئاً جوهرياً حول ماهية الإبداع، لكنها من المؤكد تلقي ضوءاً كاشفاً على الخصوصية الثقافية لعصرنا.
كيف كتب سرفانتس «دون كيشوت»، وكيف كتب تولستوي «الحرب والسلم» في عصر لم تكن فيه الإنترنت موجودة؟! هل يبدو السؤال ساذجاً؟ لا، فهذا السؤال يشكل مدخلاً للعديد من الدراسات والبحوث والندوات التي تطرح أسئلة جديدة حول الإبداع الأدبي في عصر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. وقد ناقش العديد من الكتاب والمفكرين في هذا السياق خلال السنوات الماضية سؤالاً مربكاً في نقاشاتهم: من أين يأتي الكاتب بالخصوصية والعزلة الضرورية للكتابة في عالم أصبح كل شيء فيه معلناً ويشكل مادة للنقاش والتحليل والتداول في الفضاء الإلكتروني الفضائحي والمفتوح؟!
يستدعي هذا السؤال ما قاله مارسيل بروست في عصر آخر. يقول بروست: «تولد الكتب الهامة في الظلام والصمت، وليس في وضح النهار وفي مساحات الثرثرة اليومية». فهل يمكن لتلك العملية المعقدة التي وصفها بروست والتي تتفاعل في خضم تجربة ذاتية فردية أن تتكامل اليوم في مناخ من ثقافة الإعلان والتداول العام؟ إن عالم الكتب والأدب اليوم مضاء ومعلن وهو قد تحول إلى جزء من ثقافة وصناعة الإعلان. دخل الأديب في لعبة تسويق الذات وإعلانها في الفضاء العام متجاوزاً كل ما كرس سابقاً من مفاهيم الفردية والخصوصية التي ارتبطت بفعل الإبداع، خصوصاً في حقبة الحداثة. ويبدو للكثيرين اليوم أن الفنان عموماً، والأديب خصوصاً بدأ يفقد أسراره وحريته الفردية، تلك الحرية التي كانت سابقاً تجعله يرتكب الحماقات والأخطاء الضرورية لمعرفة الذات وللتجريب. لم تكن سقطات الأديب أو هفواته أو ملابسات حياته الإنسانية وكوارثها في السابق أمراً يسيء إلى نرجسيته أو إلى صورته لأنها كانت ملكه الشخصي ومادة حياته الفردية المعزولة بإرادته في حدود يختارها. أما اليوم فشخصية الأديب أصبحت أسيرة الصورة الثابتة الموجودة في مساحات التداول العام على شبكات التواصل الاجتماعي.
عبر الموسيقار البريطاني غرايسون باري مؤخراً عن تأثير ثورة المعلومات على إبداع الفنان بتعليق طريف: «أن تكون مبدعاً يعني أن تكون مستعداً لتجعل من نفسك أحمق في بعض الأحيان.. علينا أن نتقبل هذا، ولكن لم تعد لنا الآن الحرية لنمارسه». ومن جانب آخر يطرح بعض الكتاب السؤال من وجهة نظر حاجة المبدع لمغامرة معرفة الذات. والسؤال هنا: كيف يمكن خوض هذه المغامرة في مناخ من الضجيج والإعلان والتداول؟ كيف يمكن البحث عن أسرار الذات حين تكون هذه الذات موضوعاً مكشوفاً ومعلناً؟
الروائي دون دليلو يشير إلى هذا بقوله: «إن ما لا أحد يعرفه عنك هو ما يتيح لك معرفة ذاتك». هل يشير كل هذا إلى نوستالجيا وإحساس بفقدان الحيز الفردي، السري والحميمي لفعل الكتابة، أم أنه تعبير عن ملامح عصر جديد اختلفت فيه الأمور ولم تعد العملية الإبداعية تلك المساحة السرية الغامضة التي يجهلها حتى المبدع نفسه؟!
لا شك أن المنظومات التفاعلية التي سيطرت على حياة الإنسان اليومية قد جعلت الحيز الفردي للوجود أكثر ندرة وهشاشة، ولكن وحتى الآن على الأقل لم تتبلور فكرة تقول أن الإبداع الفني-الأدبي قد غادر ذلك الحيز. ربما غادره الأديب كشخصية تتفاعل مع مؤسسات صناعة الجوائز الأدبية ومع شبكات التواصل الاجتماعي، لكن التناقض يكمن في المدى المتاح للمبدع لابتكار حيزه الخاص؛ حيث يتوافر ما يكفي من الصمت والظلام لممارسة حرية الخلق والتجريب بعيداً عن الأضواء الكاشفة والضجيج. كيف لمبدع أن يوجد في مساحتين متناقضتين في الوقت ذاته، في مساحة الإعلان المحموم عن الذات وفي الحيز الخاص؟